تلجأ الدول للاقتراض الخارجى من مؤسسات التمويل الدولية، لسد الفجوة التمويلية أى سد العجز بين الايرادات والنفقات وذلك لتنفيذ المشروعات التنموية، ويعد صندوق النقد الدولى أبرز مؤسسات التمويل التى تستهدف تقديم التمويل المدعوم بالمشورة الفنية والاصلاح لكافة الدول المقترضة بهدف الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمى لتؤكد هذا النجاح.. وقد كان لبرنامج صندوق النقد الدولى مع مصر والذى بدأ فى عام 2016 نهج اصلاحى اتبعته الحكومة المصرية برؤية وطنية حققت من خلاله أفضل النتائج، وجاءت الإشادات الدولية بتطبيق برنامج الاصلاح الاقتصادى ونتائجه وانعكاسه على الاقتصاد المصري، ومن المنتظر أن ينتهى برنامج الاتفاق مع صندوق النقد الدولى فى نوفمبر 2026، الأمر الذى فتح بابا للحوار والمناقشة مع خبراء الاقتصاد للسؤال عن ماذا بعد مرحلة الإصلاح؟ وهل لدى مصر برنامج وطنى جديد لدعم الاقتصاد؟
أجمع الخبراء أن الدولة بالفعل أسست نموذجاً اقتصادياً جديداً يعتمد فى الأساس على الانتاج والتشغيل ، مشيرين إلى أن الاقتصاد المصرى مر بصعوبات وتحديات عديدة، فى ظل ما كان يعانيه من مشكلات هيكلية ومالية قديمة، مع وجود أزمات عالمية أثرت سلبا على كافة الدول، وانتهجت برنامج الاصلاح الاقتصادى الأكثر جرأة وقوة فى علاج المشكلات من جذورها، موضحين ان برنامج الاصلاح كان على ثلاث مراحل متضمنا فى المرحلة الأولى الاصلاح النقدي، ثم الاصلاح المالي، واخيرا مرحلة الإصلاح الهيكلى والذى انطلق منه النموذج الوطنى الجديد القائم على النمو والتشغيل وتشجيع التصنيع وزيادة التصدير، مؤكدين ان الوقت قد حان للاعتماد على الموارد الذاتية للاقتصاد المصرى والانطلاق من مرحلة الاجراءات الاصلاحية إلى مرحلة النمو وتحسين مستوى معيشة المواطن، بعيداً عن اللجوء لبرامج جديدة مع صندوق النقد الدولي.
قال الدكتور حسن الشقطى أستاذ الاقتصاد وعميد كلية التجارة بجامعة أسوان إن الدولة قطعت شوطًا مهمًا فى تجهيز البنية التحتية الأساسية خلال السنوات الماضية، وهو ما يمثل قاعدة صلبة للانطلاق نحو مرحلة جديدة من الاعتماد على الموارد الذاتية. لافتا إلى أنه مع انتهاء برنامج التعاون مع صندوق النقد الدولي، تصبح الأولوية لوضع برنامج وطنى متكامل يقوم على ثلاث محاور:
الأول: تنمية موارد الدولة من خلال تعظيم الاستفادة من القطاعات الواعدة مثل السياحة عبر التوسع فى الأسواق المصدّرة للسياحة وتعزيز الاستثمارات الفندقية والخدمية، وقطاع التعدين من خلال تعظيم الاستغلال الاقتصادى للثروات المعدنية وتحفيز الشراكات مع القطاع الخاص، والصناعة والتصنيع التصديرى.
الثاني: تنويع مصادر التمويل للتنمية عبرجذب الاستثمار الأجنبى المباشر فى القطاعات الإنتاجية، وتوسيع مشاركة القطاع الخاص المحلى فى مشروعات البنية التحتية والخدمات، وتطوير أدوات التمويل المحلى مثل السندات الخضراء والصكوك الحكومية، وإصلاح هيكل المالية العامة بالتركيز على زيادة الإيرادات الضريبية من خلال التوسع الأفقى «إدماج الاقتصاد غير الرسمي» بدلاً من زيادة الأعباء على القطاع الرسمي، مشيرا إلى أن الحكومة تستهدف رفع الاحتياطى النقدى الأجنبى بنحو 5 مليارات دولار ليصل إلى 53 مليار دولار بحلول نهاية السنة المالية 2028/2029 وهذا ما تضمنته السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية التى تستوعب كل خطط التنمية القائمة على استثمار القطاعات الواعدة مصرياً.
وأكد أن ما تحتاجه مصر فى هذه المرحلة هو برنامج وطنى للإصلاح والتنمية يركز على تعبئة الموارد الداخلية وتوظيف ما تحقق من بنية تحتية كبرى لزيادة الإنتاج والصادرات، بحيث يصبح الاقتصاد المصرى أكثر قدرة على الاعتماد على ذاته وتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي، مؤكدا على ضرورة العمل على تمكين القطاع الخاص، حيث تسعى الحكومة لزيادة نسبة الاستثمارات الخاصة لتصل إلى 68 ٪ من الاستثمارات الكلية بحلول 2028/ 2029 وهذا ماتضمنته السردية الوطنية للتنمية الإقتصادية التى تستوعب كل خطط التنمية القائمة على استثمار القطاعات الواعدة مصريًا.
بدائل تمويلية تحقق أفضل النتائج
أوضح الدكتور عبدالمنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية أن الحكومة أبرمت ثلاث اتفاقيات مع صندوق النقد الدولى فى 2016 و2019 والأخيرة فى ديسمبر 2022 بقيمة 8 مليارات دولار، حصلت مصر منها على أربع شرائح بعد مراجعات اقتصادية متتالية، وتأجلت المراجعة الخامسة لتنضم إلى السادسة فى بداية الربع الأخير من 2025 ورغم إعلان الصندوق عن فجوة تمويلية تبلغ 5.8 مليار دولار فى 2025/2026 مقابل 11.4 مليار فى 2024/2025، استطاعت الحكومة تأمين التزامات تمويلية تغطى احتياجاتها حتى يناير 2026، منها 5 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبى وصفقة استثمار بنحو 900 مليار جنيه «18 مليار دولار» مع مستثمرين إماراتيين وسعوديين، إضافة لاتفاقيات مبادلة الديون مع دول عربية لتقليل الدين الخارجي.
وتابع أن تلك الأرقام الموضحة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك قدرة الاقتصاد المصرى على سداد الالتزامات وكذلك وجود بدائل تمويلية للتنمية تحقق أفضل النتائج.
وأضاف أن المؤشرات الاقتصادية شهدت تحسنًا؛ إذ انخفض التضخم فى أغسطس إلى 10.5 ٪ وتجاوز النمو 3.6 ٪، ما يدعم الخروج التدريجى من عباءة الصندوق عند انتهاء الاتفاقية فى نوفمبر 2026، مع الإفصاح عن نتائج الإصلاحات وبلورة خطة وطنية لتحسين الخدمات وتحقيق التنمية المستدامة.
وشدد السيد على ضرورة إدارة الاتفاق الحالى مع صندوق النقد الدولى باحترافية وتحديد أهداف واضحة دون تمديد جديد أو ضغوط إضافية على المواطن، خاصة فى الأسعار. ويمكن التفكير فى تقليص الاتفاق الأخير من 8 إلى 5 مليارات دولار.
وأكد أن مصر تمتلك العديد من روافد العملة الصعبة والتى تمكنها من سداد التزاماتها من الديون، من خلال زيادة حصيلة السياحة إلى 16.7 مليار دولار، وتحويلات العاملين بالخارج إلى 36.5 مليار، وعودة إيرادات قناة السويس، وارتفاع الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، مع احتياطى نقدى بلغ 49.5 مليار دولار.
واشار إلى أن المرحلة القادمة تحتاج خطة اقتصادية وطنية مستدامة لتقليل عجز الموازنة والدين العام وتحقيق النمو والعدالة الاجتماعية، لافتا إلى أن «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» تمثل الإطار الاستراتيجى لتحقيق التوازن بين الاستقرار ومتطلبات المواطن وتمكين القطاع الخاص.
تنويع اقتصادى ومزايا تنافسية
الدكتور عمرو يوسف استاذ المالية العامية يرى أن نسيج النشاط الاقتصادى والاستثمارى بمصر يتميز بالتنوع فى مجالات عدة، مشيرا إلى أن الدولة تعمل على تهيئة بيئة الأعمال للجذب الاستثمارى لتحقيق التنمية الشامله بما يمثل غدا أفضل للمصريين، لافتا إلى أن مصر احتلت الصدارة فى افريقيا كأكبر الدول جذبا للاستثمار الأجنبى المباشر لتتجاوز نسبة 15 ٪ من حجم الاستثمارات الموجهة لأفريقيا. لتحتفظ مصر بوجهتها للاستثمار مدة خمس سنوات متتالية ليقارب حجم الاستثمارات خلال تلك الفترة ما يجاوز 124 مليار دولار.
وأوضح أن قطاع الصناعة و السياحة يمثلان أساس النموذج الاقتصادى الجديد الذى يعتمد على التشغيل والنمو وزيادة الموارد الدولارية، من خلال زيادة الانتاج وزيادة العمليات التصديرية، والقدرة على جذب السياحي، مشيرا إلى أن عدد السياح فى يوليو العام الجارى بلغ 1.7 مليون سائح مقابل 1.4 مليون سائح فى يوليو 2024 لتصل ايرادات السياحة الى نحو 9 مليار دولار بنمو سنوى وصل الى 22 ٪ مما يدل على العديد من الاجراءات التصحيحة والتشجيعية لهذه الصناعة المهمه لمصر لما تمتلكه من ادوات تؤهلها ان تكون الدولة الاولى على مستوى الشرق الأوسط جذبا للسياحة.
وتابع ان هناك العديد من القطاعات التى يمكن الاعتماد عليها كصناعات السياحة والتصنيع والهيدروجين الأخضر والتى أصبحت جاذبة للعديد من تلك الاستثمارات نتيجة لما تم إنجازه فى ملف التنمية وتهيئة القطاعات المختلفة لتلبى احتياجات المستثمرين الراغبين البدء فى هذا المجال. مشيراً إلى ان الدولة اتخذت خطوات متسارعة لتعزيز قطاع الطاقة النظيفة بإقامة العديد من محطات توليدها بما جعلها من ضمن أهم الدول المنتجة لتلك الطاقة، حيث تربعت مصر على خارطة أكبر مصنعى الغاز الطبيعى والذى تجاوزت حجم الصادرات المصرية نحو 500 مليون دولار فضلا عن وجود الطموح لزيادة هذه الإنتاجية للوصول إلى مليار دولار سنويا ليكون هذا القطاع جاذبا لكبرى الشركات والمستثمرين الأجانب فى مجالات الكشف والتنقيب.
وأوضح ان دعم القطاع الخاص ركيزة أساسية لتحسين مستوى المعيشة وزيادة نسب التوظيف وتراجع معدلات البطالة، مشيراً إلى ان الحكومة أسست نهجاً متكاملاً عن سوق العمل وتوفير العمل اللائق فى رؤية مصر 2030، وتحولت من مرحلة الاستهداف إلى مرحلة تحقيق المستهدفات، من خلال الدفع بسياسات شاملة وبيئة تنظيمية ومشجعة للاستثمار فى رأس المال البشري، فى مجالات التعليم والتدريب، وكذلك التوسع فى طرح برامج التمويل المختلفة والداعمة لريادة الأعمال وأصحاب المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، لافتا إلى أن برنامج عمل الحكومة يستهدف تحقيق تراجع فى معدلات البطالة لتصل إلى 6 ٪ خلال 2027.
قال الدكتور محمد باغة استاذ التمويل إن مفتاح التنمية الحقيقية هو الانتاج والتشغيل، وهو البديل الأمثل والمسار المستدام لدعم اقتصاد اى دولة، مشيرا إلى ان الدول تلجأ للاقتراض الخارجى من مؤسسات التمويل الدولية لسد الفجوة التمويلية نتيجة عدم كفاية العملات الأجنبية المطلوبة لسد الالتزامات الخارجية وسد العجز فى ميزان المدفوعات وخدمة الديون وتمويل مشروعات التنمية.
وتابع أن المؤسسات التمويل الدولية دائما تشترط اتباع برامج اصلاحية للاقتصاد، تتفق فى عمومها على علاج المشكلات الهيكلية، وهذا ما حققته مصر بجدارة وبإشادة دولية، وفى طريقها لعبور المرحلة الاصلاحية لينطلق الاقتصاد المصرى نحو نموذج ومسار وطنى.
وأوضح أن برنامج مصر مع صندوق النقد الدولى سينتهى فى نوفمبر 2026، ومع انتهاء برنامج الاصلاح الاقتصادى تبدأ مصر مرحلة جديدة برؤية وطنية محددة الملامح والمستهدفات، مؤكدا أن الدولة اتخذت خطوات حاسمة ومحفزة للتشغيل والنمو منها على سبيل المثال، اتباع سياسة نقدية محفزة للنشاط الاقتصادى من خلال خفض أسعار الفائدة، الأمر الذى من شانه خفيف تكلفة تمويل المشروعات وتشجيع أصحاب الأعمال للاقتراض وضخ الأموال فى المشروعات الانتاجية والصناعية المختلفة.
أكد ان مصر لديها الآن موارد ذاتية متعددة تستطيع من خلالها سد الفجوة التمويلية وتمويل مشروعاتها التنموية ودعم الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية، مشيرا إلى أن ما قدمته الدولة من تسهيلات وتشريعات عزز بيئة الاستمار وساهم فى جذب رءوس الاموال الاجنبية، كذلك عملت على مدار السنوات الماضية على تعظيم أصولها مما ساهم فى زيادة معدلات العائد على رأس المال المستثمر، وأحدثت تحول هيكلى فى بنيان الاقتصاد المصري، ليتحول من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد الانتاج والتشغيل، ووضعت قائمة أولويات على رأسها الاهتمام بالقطاعات الانتاجية كالصناعة والزراعة وغيرها.
وأوضح أن تدفقات الاستثمار الأجنبى مباشر فى مصر شهدت تطورا ملحوظا من حيث حجم الاستثمارات ونوع الاستمارات وتوزيعها على القطاعات الواعدة، حيث سجل حجم الاستثمار الأجنبى المباشر خلال عام 2024، حوالى 46.6 مليار دولار، لافتا إلى أن الحكومة تستهدف جذب استثمارات أجنبية مباشرة قدرها 42 مليار دولار خلال العام المالى 2025 – 2026.
تمويل ذاتى
أكد الدكتور عبدالنبى عبدالمطلب الخبير الاقتصادى ووكيل وزارة الاقتصاد للبحوث الاقتصادية سابقا، ان مصر دولة عضو فى صندوق النقد الدولى وتسدد اشتراكات سنوية بالدولار، وبالتالى لا يمكنها أن تنقطع عنه نهائيًا.
وأضاف أن الصندوق يقدم لمصر، إلى جانب القروض، خدمات استشارية مهمة مثل تدقيق البيانات وتقديم التوصيات بشأن إدارة الاقتصاد الكلي.
وشدد عبدالمطلب على أن صندوق النقد لا يمول مشروعات تنموية أو استثمارات، بل يقتصر دوره على تمويل عجز ميزان المدفوعات أو توفير النقد الأجنبى اللازم لاستيراد بعض السلع الأساسية مثل القمح والبترول والسكر والزيوت. أما القروض التى حصلت عليها مصر فكانت بالأساس لتغطية عجز ميزان المدفوعات.
ورأى عبدالمطلب أن الحل يكمن فى العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة باعتبارها مصدرًا للعملات الصعبة، فضلًا عن ترشيد الواردات الحكومية خاصة فى البنود الاستهلاكية، والتقليل من أوجه البذخ مثل السفر والعلاج بالخارج على نفقة الدولة أو شراء سلع رفاهية غير ضرورية. كما دعا إلى تشجيع الاستثمار الأجنبى غير المباشر، وزيادة تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وإصدار أوراق مالية وسندات بشروط مدروسة لتجنب مخاطر «الاموال الساخنة»..وأضاف أن من بين الحلول أيضًا تشجيع رءوس الأموال المصرية فى الخارج على ضخ جزء من استثماراتها فى السوق المحلية، والعودة إلى تعزيز ثقافة الادخار بالعملات الصعبة عبر أدوات مالية موجهة للمصريين فى الداخل والخارج.