الرئيس السيسى بدا متفائلاً أثناء الاحتفال بتخريج دفعة من أكاديمية الشرطة، ودعا كل الأطراف لتحمل مسؤولياتها، وتوقع أن تكون النهايات سعيدة وقريبة، وقدم الدعوة للرئيس ترامب على الهواء لحضور التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كانت تلك الكلمات بمثابة إعلان أمل جديد فى زمن امتلأ باليأس، فبعد عامين من الحرب والدمار والقتل والتجويع والتشريد، صار واضحًا أن كل شىء يجب أن يصل إلى نقطة النهاية. فمن أشعل الحرب لم يكن يعرف متى يطفئها، ومن أطلق ضربة البداية لم يكن يدرى طول المباراة، ومن ظن أنه يمسك بزمام الأحداث اكتشف أن النار حين تشتعل لا تفرق بين من أشعلها ومن وقف يتفرج عليها.
الحروب دائمًا تبدأ بسهولة، لكنها لا تنتهى إلا بثمن فادح. تبدأ بخطاب حماسى أو حادث دموى أو قرار أرعن، ثم تتحول إلى طاحونة تطحن الجميع بلا تمييز. عامان من القتل كفيلان بأن يمزقا ذاكرة الأرض والإنسان، وأن يعيدا الجميع إلى سؤال بسيط ومرّ فى الوقت ذاته: لماذا نحارب؟ لقد صار المشهد أكثر وضوحًا من أى وقت مضي، فلا انتصار حقيقى فى الأفق، ولا نهاية قريبة إلا عبر السلام، فالدمار طال كل شيء، والدماء لم تترك مكانًا للنسيان، والأجيال الجديدة تكبر على ركام الحلم وشتات الذاكرة.
فى هذا السياق تأتى شرم الشيخ، ليس كمكان يجتمع فيه المتفاوضون فحسب، بل كرمز ورسالة. شرم الشيخ ليست مدينة عادية، إنها عنوان مكتوب على صفحات التاريخ المصرى بمداد الحرب والسلام معًا. حررت بالقوة ثم ثبتت بالسلام، وشهدت على لحظات فارقة كان فيها صوت العقل أعلى من هدير المدافع. اليوم، حين تستضيف هذه المدينة المتقاتلين من جديد، فإنها تذكّر العالم بأن الحلول لا تُكتب بالرصاص، بل تُصنع بالكلمة.
مصر كانت دائمًا مؤمنة بأن السلام ليس ضعفًا بل شجاعة من نوع مختلف. خاضت الحروب دفاعًا عن الحق، لكنها أيضًا مدت يدها للسلام من موقع قوة. لم تكتف بالشعارات، بل حولت الألم إلى مبادرة، والهزيمة إلى تجربة، واليأس إلى طاقة لبناء المستقبل. كانت مصر، وما زالت، صانعة السلام فى منطقة لا تعرف السكون. تحارب الإرهاب، وتحاصر التطرف، وفى الوقت ذاته تبنى الجسور وتعيد التوازن حين ينهار كل شىء من حولها.
اليوم، تحتضن شرم الشيخ قمة غير عادية، يجتمع فيها الخصوم برعاية مصرية أمريكية قطرية، فى محاولة لوقف نزيف دام لعامين. قد يبدو المشهد معقدًا، فالمواقف متباعدة، والجراح عميقة، والثقة مهزوزة، لكن مصر استطاعت أن تصنع من المستحيل واقعًا. تجاوزت العقبات واحدة تلو الأخري، وأثبتت أن إرادة الحياة أقوى من حقد الحروب. ربما لم يكن الطريق سهلًا، وربما لم تصل الجهود بعد إلى التوقيع النهائي، لكننا بلا شك قاب قوسين أو أدنى من اللحظة التى ينتظرها العالم كله: لحظة الصمت بعد الضجيج، والهدوء بعد العاصفة.
شرم الشيخ لم تُختر اعتباطًا. إنها المكان الذى يحمل فى ذاكرته معنى النهايات الجميلة والبدايات الجديدة. هناك على أرض سيناء التى عرفت مرارة الحرب وحلاوة السلام، تلتقى الإرادة بالمكان، فى مشهد يتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق التاريخ. من هناك أرسلت مصر رسالتها الأولى إلى العالم: أن من يدفع ثمن الحرب يملك الحق فى صناعة السلام. واليوم تعود الرسالة نفسها، لكن بصياغة جديدة تناسب زمنًا تغيرت فيه الموازين وتبدلت فيه الأدوار.
العالم كله يراقب ما يجري، لأن الحرب التى طالت لم تعد تخص الفلسطينيين والإسرائيليين وحدهم، بل أصبحت قضية إنسانية تمس ضمير البشرية. الأطفال الذين فقدوا بيوتهم، والنساء اللواتى ينتظرن الغائبين، والمدن التى صارت رمادًا، كلهم شهود على عبثية القوة حين تنفلت من عقالها. لقد تعب الجميع من الموت، وصار السلام الآن ليس خيارًا سياسيًا بل ضرورة للبقاء.
قد تكون هذه هى الفرصة الأخيرة فعلاً. فالتاريخ لا يمنح الكثير من الفرص، وإذا لم تُلتقط هذه اللحظة، فقد يعود الجميع إلى دوامة لا نهاية لها. لكن الأمل هذه المرة مختلف، لأن مصر موجودة فى المشهد بقوة، ولأن القيادة المصرية تدرك أن الأمن لا يتحقق بالحدود المغلقة ولا بالبنادق المرفوعة، بل بالمصالح المشتركة والعقول الهادئة والقلوب التى تؤمن بأن الإنسانية أهم من الحسابات الضيقة.
الرئيس السيسى، حين دعا ترامب للحضور إلى شرم الشيخ للمشاركة فى التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار، لم يكن يقدم دعوة بروتوكولية، بل كان يرسل للعالم إشارة بأن مصر تراهن على السلام، وأنها لا تتحدث من فراغ، بل من تجربة صنعتها بدماء أبنائها وإرثها التاريخي. بدا السيسى واثقًا من أن النهاية ستكون سعيدة، لأن ما يحدث اليوم ليس مجرد تفاوض سياسى، بل محاولة لإنقاذ روح المنطقة من الانتحار.
فى النهاية، تبقى شرم الشيخ أكثر من مجرد مدينة على البحر الأحمر. إنها مسرح للأمل فى زمنٍ يعانى من العتمة، ومكانٌ يذكّر العالم بأن الحرب مهما طالت فلابد أن تنتهي، وأن السلام مهما تأخر فهو المصير المحتوم. من هناك قد يكتب التاريخ فصلًا جديدًا من فصول الشرق الأوسط، فصلًا يحمل عنوانًا واحدًا: نهاية الحرب وبداية السلام