كتبت : نهى حامد
منذ عقود، ظلت القضية الفلسطينية فى صدارة أولويات السياسة الخارجية المصرية، باعتبارها قضية تمسّ عمق الأمن القومى العربي، وتعبّر عن التزام مصر التاريخى بدعم الشعب الفلسطينى وحقه فى إقامة دولته المستقلة. فالقاهرة لم تنظر يوماً إلى فلسطين كملف سياسى فحسب، بل كقضية إنسانية وأخلاقية متجذّرة فى ضمير الأمة، تتقاطع فيها مبادئ العدالة مع مقتضيات الجوار والقيادة الإقليمية.
ومع اشتداد العدوان الإسرائيلى على غزة، تنوعت مواقف الدول بين من يطالب بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، ومن يسعى فقط إلى تهدئة مؤقتة تحفظ مصالحه. وحدها مصر اختارت طريقاً مغايراً، فلم تكتف بالدعوة إلى إنهاء الحرب، وإدخال المساعدات رغم جهدها الضخم فى ذلك وإنما جعلت من إقامة الدولة الفلسطينية هدفاً إستراتيجياً يعلو فوق أى تسويات آنية أو اتفاقات هشّة.
موقف مصر جاء شاملاً فى رؤيته، متوازناً فى خطواته، ومعبّراً عن قناعة راسخة بأن السلام الحقيقى لا يتحقق إلا بإزالة جذور الصراع، لا بمجرد تهدئة نيرانه.
ومع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة قبل عامين، أكدت القاهرة على أن الحل لا يكمن فى وقف مؤقت للعنف فقط، بل فى معالجة أصل المشكلة عبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية.
رؤية مصر لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل إنهاء الاحتلال، ووقف الانتهاكات، وضمان حقوق اللاجئين، وإعادة إعمار غزة دون المساس بحقوق سكانها أو تهجيرهم من أماكنهم، وفتح أفق سياسى يمهّد لسلام شامل وعادل. وفى كل المواقف المصرية، كان يتكرر الرفض القاطع لأى محاولات لتهجير الفلسطينيين من أرضهم أو تصفية قضيتهم تحت غطاء «التهدئة» أو «المساعدات» باعتبار أن هذا مبدأ لا يقبل المساومة.
خطابات وتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى شكّلت محوراً واضحاً فى تحديد الموقف المصرى وثوابته الواضحة وكان آخرها كلمته بمناسبة ذكرى تحرير سيناء فى أبريل الماضي، حيث شدّد الرئيس على أن السلام العادل والشامل لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، مؤكداً أن مصر ستظلّ سداً منيعاً أمام محاولات تصفية القضية أو النيل من حقوق الشعب الفلسطيني.
وقال الرئيس السيسى إن السلام العادل هو الضمان الحقيقى لإنهاء دوائر العنف والانتقام، وإن إعادة إعمار قطاع غزة يجب أن تتم وفق الخطة العربية الإسلامية، دون أى شكل من أشكال التهجير، حفاظاً على الحقوق المشروعة للفلسطينيين وصوناً لأمننا القومي.
كما ذكّر الرئيس بأن تجربة السلام بين مصر وإسرائيل كانت ولا تزال نموذجاً يُحتذى لإنهاء الصراعات وتحقيق الاستقرار، هكذا هو موقف مصر لم تختذل القضية يوماً فى حل أزمة، أو إدخال مساعدات، وإنما لها هدف واضح وقاطع هو كيف نصل إلى الدولة المستقلة كحلم يسعى الجميع إليه.
وكما أكد وزير الخارجية بدر عبد العاطى أن الرؤية المصرية «واضحة ومبدئية»، فى وجوب إنهاء الحرب فوراً بعد وضع الترتيبات الانتقالية فى غزة، مشيرا إلى أن مصر تمارس أقصى جهدها لتحقيق صفقة توقف الحرب و تدفق المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح الرهائن.
وخلق أفق سياسى جديد وتدشين مسار تفاوضى جاد لتنفيذ حل الدولتين، ووقف الاستيطان، والانسحاب الكامل من الأراضى المحتلة عام 1967.
هذا ما تسعى إليه مصر بشكل مستمر لقد برزت القاهرة برؤية تتجاوز الإغاثة إلى معالجة الجذور، على خلاف مواقف بعض الدول التى اكتفت بالمناشدة أو الاكتفاء بالمساعدات. فبينما انشغلت معظم العواصم بالتصريحات الدبلوماسية، فتحت مصر معابرها، ونسّقت دخول المساعدات، واستقبلت الجرحي، وتحملت العبء الإنسانى والسياسى وسط ضغوط إقليمية ودولية هائلة.
وفى كل محفل دولي، شددت القاهرة على أن حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة هو السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة، رافضة أى ترتيبات مؤقتة أو حلول تلتف على الحق الفلسطينى فى تقرير المصير.
لم يكن الطريق سهلاً أمام القاهرة، فثمة تحديات متشابكة تواجه هذا الدور. الضغط الإقليمى والدولى من دول ترتبط بعلاقات قوية مع إسرائيل أو الولايات المتحدة يحاول أحياناً حصر الجهود المصرية فى الوساطة الإنسانية دون التطرق إلى الحل السياسي.
إلى جانب ذلك، يظل الانقسام الفلسطينى الداخلى أحد العوائق الكبرى أمام بلورة رؤية موحّدة لإدارة القطاع بعد وقف الحرب، فى حين تتحمل مصر مسؤولية موازنة موقفها بين حماية أمنها القومى ورفض التهجير القسرى الذى تخشاه المنطقة بأكملها.
فى نهاية المطاف، يتضح أن مصر لم تنحز إلى منطق الصفقات المؤقتة، بل تمسكت من البداية بالهدف الأسمي.. إقامة الدولة الفلسطينية باعتباره حجر الزاوية لأى سلام حقيقي. موقفها لا يقوم على العاطفة أو الحسابات الضيقة، بل على رؤية متكاملة تستند إلى القانون الدولي، والتاريخ، وتجربة مصر ذاتها فى صنع السلام.
وبينما يسعى العالم إلى إنهاء الحرب سريعاً، تعمل القاهرة على إنهاء السبب الذى اشعلها «الاحتلال» واضعة نصب عينيها أن العدالة هى الطريق الوحيد إلى السلام. إنه موقف يختصر فلسفة السياسة المصرية فى عبارة واحدة «لا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة… ولا أمن بلا عدالة».. والغريب أن مصر تفعل كل هذا، بينما هناك من تفرغوا لمهاجمتها ومحاولات تشويه موقفها بالأكاذيب والادعاءات وترويج أخبار ومعلومات مفبركة لا أصل لها. لكن ستبقى مصر هى الحامى الأول للقضية الفلسطينية.