تحديات ترامب ونتنياهو تدفعهما للبحث عن أى مكاسب
تآكل الصورة الاستثنائية وفقدان القدرة على فرض الإرادة نتيجة تفاقم الانقسامات
هشاشة القوة والتمزق الداخلى جراء حروب الاستنزاف والأزمات الاقتصادية والاجتماعية
تحليل : أحمد بديوى
يمكن للمراقب المحترف أن يتخيل المشهد بتفاصيله.. قاعة اجتماعات مغلقة يجلس فيها فريق من كبار المسئولين الأمريكيين حول طاولة خشبية طويلة، يمررون أوراقًا تحمل عناوين باردة: «مستقبل غزة، خطة ترامب، استقرار الشرق الأوسط » .. خلف الأوراق شعور متزايد بالعجز، فيما تبدو علامات الإدراك المتأخر على وجوه المجتمعين.
ما اعتادوا على تسميته «إدارة أزمات» لم يعد كافيًا، فالوهم المرتبط بقدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على فرض سطوتهما لم يعد كما كان.. المعادلة تغيّرت، فلا تل أبيب القوة التى تسير بثقة مطلقة فى محيط مرتبك، ولا واشنطن اللاعب الرئيسى الذى يملك رفاهية التمدد والضغط على أكثر من جبهة.
تعرضت الكثير من الركائز التى استند إليها المشروع الأمريكى- الإسرائيلى فى المنطقة لتصدعات واضحة.. تل أبيب فوجئت بأنها لا تستطيع السيطرة الحاسمة على الوضع.. واشنطن عاجزة عن إقناع الرأى العام العالمى بقدرتها على إدارة الأزمة دون خسائر سياسية متفاقمة.. صور الخراب والدمار والدماء المتدفقة بسبب حليفتها إسرائيل بددت مزاعمها عن «الحقوق والحريات».
مشروع ينهار
فى إسرائيل أزمة «وجودية» لا تخطئها العين.. رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ألمح لها دون أن يشخص أبعادها أثناء خطابه فى الجمعية العامة للأمم المتحدة «26 سبتمبر 2025».. لم يقل إن الاحتجاجات تتصاعد ضد حكومته المتهمة بالفساد والعجز، وإن المؤسسة العسكرية تتعرض لانتقادات حادة، والانقسام بين المتدينين والعلمانيين، بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية يزداد حدة
الانقسامات فى إسرائيل لم تعد سطحية، باتت تهدد بتفكك الإجماع الذى قام عليه المشروع الصهيونى نفسه خلال القرن الماضي.. الأزمة الديموغرافية تضيف عبئًا آخر.. معدلات الهجرة العكسية ترتفع، والشباب الإسرائيلى يفكر فى مغادرة بلد يعيش على وقع صراع دائم.. الهجرة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية أصبحت خيارًا مطروحًا بجدية، ومعها يتزايد الشعور بانعدام الأمان حتى فى قلب تل أبيب.. الدولة لم تعد تمثل الحلم الذى وُعدوا به.
إسرائيل «رغم ما يبدو أنه انتصارًا على ميليشيات جرى تضخيمها إعلاميًا خلال الـ30 عامًا الماضية»، تبدو عالقة فى حلقة مفرغة.. تدخل عسكرى يطول دون أن يُحسم.. طوال عمرها القصير تفضل الحروب الخاطفة، فإذا بها تنزلق فى معارك طويلة على جبهات عدة.. خسائرها البشرية والاقتصادية المتراكمة خلال الـ24 شهرًا الماضية تتحدث عن نفسها.
تأكدت صورة جيشها الدموى.. ليس «جيش الدفاع» كما يزعمون، بل «جيش العدوان» وفق ما يرتكبون.. ندوب قاسية تعيد إسرائيل إلى زمن العصابات.. أزمة تمس الأساس الذى قامت عليه «الدولة».. ومع امتداد الصراع، يزداد شعور المستوطنين بأن قيادتهم «السياسية والعسكرية» لم تعد قادرة على تقديم إجابة واضحة: ما الهدف النهائى؟ ما الثمن؟ وما الضمانة بأن الأمن لن ينهار مجددًا؟
سياسيًا، تبدو الحكومة الأشد تطرفًا فى وضع صعب.. تحالف ضعيف، تشكل فى ديسمبر 2022 بين أحزاب يمينية متشددة.. يعتمد على توافق محدود «الاستيطان، الحرب فى غزة»، لكنه يعانى من خلافات داخلية حادة «حول التجنيد العسكرى الإلزامى لفئات شبابية متطرفة، التفاوض على وقف إطلاق النار فى غزة، إصلاحات قضائية للسطو على صلاحيات المحكمة العليا»، مما يهدد بانهياره فى أى لحظة.
نتنياهو، يجد نفسه فى مواجهة ضغوط متناقضة: من اليمين الذى يطالبه بالتصعيد، ومن الخارج الذى يطالبه بضبط النفس، ومن الداخل الذى بدأ يتململ من كلفة الاستمرار.. الضغوط المتقاطعة تجعل القرار السياسى الإسرائيلى أقرب إلى ردود فعل مرتبكة منه إلى إستراتيجية متماسكة.. فريق يطالب بحسم عسكرى بأى ثمن، وفريق آخر يصرخ من أجل وقف الحرب وإعادة الجنود.. المشهد يؤكد أن المجتمع الإسرائيلى عرضة للتفكك.
الصورة المرسومة منذ عقود عن مجتمع «الأمن القومى» تهتز يومًا بعد آخر.. لم تعد الشعارات فى إسرائيل كافية لطمأنة العائلات التى تنتظر أبناءها على الحدود، ولا الرواية الرسمية قادرة على إقناع جيل شاب يرى بعينيه أن الانتصار الذى وُعد به صار سرابًا.. إدارة نتنياهو لـ»الكيان» قلبت المعادلات فى الداخل قبل أن تقلبها فى الجوار الإقليمي.
فجأة، اكتشف الإسرائيليون أنهم ليسوا محصنين كما قيل لهم، وأن الجدار الأكثر تكنولوجية فى العالم يمكن تجاوزه خلال ساعات.. حتى وإن كانت عملية «طوفان الأقصى» خدعة إسرائيلية للخروج من المأزق الكبير عبر حركة حماس، لكن الشعور بالصدمة بين المستوطنين لم يكن، مؤقتًا.. تحول إلى أزمة ثقة حقيقية فى المؤسستين العسكرية والسياسية معًا.
جيش يملك أحدث الأسلحة والمعدات، لكنه عجز عن حماية الحدود الأقرب إلى قلب الدولة.. حكومة تتحدث عن الردع والقوة الساحقة، لكنها لا تستطيع تحديد أفق للحرب، ولا شروطً للخروج منها.. التناقض أنتج انقسامًا عميقًا داخل المجتمع، بين من يريد استمرار الحرب ومن يرى أن استمرارها يهدد أساس الدولة ذاته.
المجتمع الإسرائيلى نفسه يعانى من أزمة هوية تتعمق مع كل يوم حرب..الانقسام الثقافى والاجتماعى يطفو اليوم أكثر من أى وقت مضي، لأن الحرب عرّت هشاشة ما يسمى بـ»الرابط الوطني»، الذى كان يُقدَّم باعتباره صلبًا.. لم يعد الشعور بالانتماء وحده كافيًا لشدّ الصفوف، خصوصًا مع زيادة أعداد القتلى وغياب أفق للنصر.
الأزمة الاقتصادية تزيد الصورة قتامة.. تكاليف الحرب تتصاعد بشكل غير مسبوق، قطاعات كاملة مشلولة، الاستثمارات تهرب، والسياحة انهارت.. رجال الأعمال يحذرون من أن الاقتصاد الإسرائيلى لم يعد قادرًا على تحمّل حرب طويلة.. تتسع الفجوة الاجتماعية فى إسرائيل: عائلات ثرية تستطيع النجاة من أعباء الحرب، بينما الطبقة الوسطى والفقراء يتحملون العبء الأكبر.. الانقسام يعمّق الإحساس بأن الدولة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها لا أمنيًا ولا اقتصاديًا.
الإمبراطورية «المنهكة»
يتقاطع المأزق الإسرائيلى مع نظيره الأمريكي.. تعيش البلاد مرحلة استنزاف شاملة؛ الداخل يغلى بانقسامات يُغذيها الصراع المتصاعد والتعنت المتزايد بين الجمهوريين والديمقراطيين فى كل الملفات.. كل قرار فى السياسة الخارجية صار موضوعًا للتجاذب وليس ثمرة رؤية إستراتيجية طويلة المدي، من تمويل أوكرانيا إلى دعم إسرائيل.
منذ مطلع أكتوبر الجارى، تكدست القاعات الفيدرالية بصمت متوتر.. الكونجرس، عاجز عن تمرير قانون التمويل للسنة المالية 2026 على وقع الصراع الداخلى حول أرقام الإنفاق والرعاية الصحية.. الديمقراطيون يصرون على تمديد الإعانات الصحية، والجمهوريون يرفضون.. يتبادل الطرفان الاتهامات، ويكررون محاولات التصويت الفاشلة فى مجلس الشيوخ مرات عدة.
جلسات النواب تأجلت حتى 13 أكتوبر.. كأن الساعة تتوقف أمام خلافاتهم.. وسط الفراغ المؤسسي، يحوم خطر اقتصادى واقعي، إذ يقدر تأثير «الإغلاق الجزئى»، بحوالى مليار دولار أسبوعيًا.. رقم يفضح هشاشة الإدارة الأمريكية الداخلية وقدرتها على ضمان استقرارها المالى والسياسى فى آن واحد.
منذ أعوام، لم تعد السياسة الأمريكية تُدار بإجماع داخلي.. الكونجرس غارق فى تعطيل متبادل، والجهاز البيروقراطى يعانى من تسييس غير مسبوق.. القضاء تحوّل إلى ساحة مواجهة بين تيارات فكرية متضاربة.. الرئيس «أيًّا كان اسمه» يدخل البيت الأبيض محاصرًا بشعور واضح يظلله شكوك نصف الناخبين.
اقتصاديًا، تبدو الصورة أكثر جلاءً.. صحيح أن الناتج الأمريكى لا يزال الأكبر عالميًا، لكن المؤشرات تتراكم لتُظهر أن التفوق لم يعد مطلقًا.. الدين العام يتصاعد إلى مستويات غير مسبوقة «يتجاوز 37 تريليون دولار».. التضخم يضغط على الطبقة الوسطي، الأزمات المصرفية تتكرر بين فترة وأخري، وتكنولوجيا المنافسين «من الصين إلى أوروبا»، تقضم تدريجيًا من حصة الشركات الأمريكية.
تآكل «الاستثنائية»
الأزمة الأمريكية ليست مالية وسياسية فحسب، بل قيمية أيضًا.. صورة «الاستثنائية» الأمريكية، التى كانت تُستخدم لتبرير التدخلات الخارجية، تهاوت.. استطلاعات الرأى تُظهر تآكل الثقة فى المؤسسات، وتنامى الشكوك فى نزاهة الانتخابات، وصعود خطاب شعبوى يضعف قدرة النظام على اتخاذ قرارات إستراتيجية.. فى أروقة المدن الأمريكية، يبدو الحيّز العام مُحاصرًا بتراجع متراكم.
استطلاعات 2025 تكشف عن تآكل ثقة غير مسبوق.. الحكومة الفيدرالية تحظى فقط بـ33 % من الثقة، أدنى من 36 % عام 2004، مع فجوة حزبية قياسية تصل إلى 15 نقطة بين الجمهوريين والديمقراطيين.. بيانات وتقارير: بيـو، ريسيرش، إدلمان،مورنينج كونسولت, وجالوب «تأسس عام 1935» معبرة.. المراكز التى تُعد مرجعًا أساسيًا فى قياس الرأى العام على الصعيدين الوطنى والدولى تتبع الثقة والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بمنهجية علمية صارمة.
الإعلام يتهاوى إلى 28 %، والمؤسسات الكبري، من الجيش إلى المحكمة العليا، لا تتجاوز الثقة بها 28 %.. حتى المستقبل للجيل القادم يبدو مظللًا، فـ 36 % فقط يرونه أفضل.. مؤشر صارخ على تآكل «الاستثنائية»، حتى بعد عودة ترامب إلى السلطة، ظلت الثقة فى قواعد القانون هشة، رغم اتفاق 96 % على أهميتها.
العقد الاجتماعى الأمريكى نفسه يتآكل.. ملايين يشعرون أن «الحلم الأمريكى» لم يعد فى متناولهم، وأن الدولة فقدت قدرتها على تأمين مسار صاعد للأجيال الجديدة.. فجوة اقتصادية- اجتماعية تلقى بظلالها على السياسة الخارجية، حيث بات الخطاب الانعزالى يجد صدى متزايدًا، ويعود شعار «أمريكا أولًا» ليجد جمهورًا متعطشًا له، حتى وإن أعاد رسم ملامح السياسة الخارجية جذريًا.
فى الشوارع الأمريكية، يعلو الضجيج أكثر مما يليق بدولة تظن نفسها مركز القرار الكوني.. جبهتان سياسيتان تتنازعان النفوذ فى الداخل، وانقسامات لا تكاد تهدأ حتى تتفجر فى قضايا جديدة: الهجرة، السلاح، الإجهاض، الضرائب، الهوية، ودور الدين فى السياسة. بلد يتناوب على قيادته حزبان عاجزان عن صياغة توافق عميق.
تتزايد الشعبوية كرد فعل على الأزمات. 8 من كل 10 أمريكيين يصفون بلادهم بـ»الأزمة السياسية».. يربط تقرير إيبسوس وكوينيبياك صعود الشعبويين بالاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية، مما يهدد الاستقرار الاستراتيجي.. الديمقراطيون يجدون فى «الشعبوية» ملاذًا أكثر من «الوفرة». تقارير بوليتيكو وسى إن إن تشير إلى أن هذا الصعود يمثل «رؤية مركزية» للناخبين عالميًا، ما يضع البلاد على مفترق تاريخى بين هشاشة المؤسسات وصعود خطاب القوة المباشر.
إمبراطورية تنهكها أزماتها الداخلية أكثر مما تكشفه واجهاتها الرسمية.. البلد الذى اعتاد إظهار قوته الخارجية انعكاسًا لتماسكه الداخلي، يعيش اليوم معادلة معكوسة.. داخل ممزق يسحب من رصيد الخارج، وعجز عن التفاهم فى البيت الأبيض يضعف القدرة على التحكم فى مناطق النفوذ البعيدة.
واشنطن لم تعد تملك رصيدًا من الشرعية الأخلاقية أو الاقتصادية أو حتى العسكرية يسمح لها بفرض صيغ تسوية أو تأجيل انفجار محتوم.. أصبحت مجردة مما كانت تمتلكه خلال الحرب الباردة أو مطلع الألفية من قدرة على إقناع الداخل بأنها تعرف أين تتجه وماذا تريد.. فى الخارج، حلفاء يشككون، خصوم يتجرأون، وملفات مفتوحة بلا حل ولا حسم.
إرهاق ميدانى
الارتباك الإستراتيجى أمام الصين وروسيا وأوروبا واضح للعيان.. تحديات تجعل من الصعب على واشنطن إدارة صراع إقليمى معقد كغزة أو إعادة تشكيل المنطقة وفق تصوراتها.. هذه الوقائع دفعت الثقة العالمية بقدرتها على إنتاج حلول متماسكة إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية.
عسكريًا، يكشف الواقع بدوره عن علامات الإرهاق الأمريكى.. الحروب الطويلة فى أفغانستان والعراق خلّفت جروحًا غائرة فى المؤسسة العسكرية وفى الوعى العام.. الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنفقت تريليونات الدولارات دون أن تحقق «النصر الحاسم» لا فى ساحات القتال القديمة نسبيًا، ولا فى الجديدة منها.
الحرب الأوكرانية- الروسية تؤكد أن السلاح وحده لا يكفي، وأن دعم الحلفاء أصبح عبئًا ماليًا وسياسيًا ثقيلًا. نشأت أزمة ثقة تأكل فى قلب حلف شمال الأطلسى كما تأكل النار نفسها. الأوروبيون يبحثون، فى السنوات الأخيرة، فكرة «الجيش الأوروبي». ضغوط ترامب ومعايرته للقارة العجوز محرجة، لا تليق بهم، وإن كانت تليق به.
فى الوقت نفسه، الصين تتوسع فى بحرها الجنوبي، وروسيا تستعيد نفوذها فى قلب آسيا وأفريقيا، بينما الولايات المتحدة تنشغل بمحاولة السيطرة على أزمات لا تنتهى فى الشرق الأوسط.. تعدد الجبهات لم يعد ميزة، بل صار استنزافًا، والجيش الأمريكى الذى اعتاد خوض حروب محدودة بنهايات واضحة يجد نفسه اليوم أمام معارك طويلة بلا أفق.
إدارة ترامب لا تملك ترف الانخراط فى صراع طويل الأجل، لكنها أيضًا لا تملك خيار الانسحاب الكامل. هذا ما يجعلها تتأرجح بين خطاب حازم وإجراءات مترددة، بين وعود كبرى ونتائج هزيلة. الولايات المتحدة التى تَعِد بالاستقرار الإقليمى لم تعد قادرة على ضمان الاستقرار فى مدنها الداخلية.
صورة الولايات المتحدة أمام الرأى العام العالمى تعرضت لتصدّع غير مسبوق: منظمات حقوقية، وسائل إعلامية، احتجاجات شعبية واسعة. الانحياز الأمريكى السافر لإسرائيل، القوة التى تزعم «حماية النظام الدولي»، هو الوجه ذاته الذى ينتهك قواعد هذا النظام منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
البلاد أصبحت معزولة، حتى شراكاتها الثنائية تتآكل. شركاء تقليديون يسعون إلى بدائل فى الصين وروسيا والهند. أزمة أمريكية متعددة الأبعاد: انقسام داخلي، تراجع اقتصادى نسبى، إنهاك عسكرى، تآكل الصورة، وفقدان القدرة على إقناع الحلفاء.
كل واحدة من هذه الأزمات كانت قد تظهر منفردة فى لحظات تاريخية سابقة، لكن اجتماعها اليوم يكشف أن الإمبراطورية دخلت مرحلة «إدارة التراجع». صحيح أنها لا تزال تملك موارد هائلة، لكنها موزعة ومستهلكة فى اتجاهات متناقضة. وصحيح أنها قادرة على تعطيل مشاريع خصومها، لكنها لم تعد قادرة على صياغة مشروعها الخاص.
لا يمكن لهذه الخلفية أن تغيب عن أى مبادرة أمريكية فى المنطقة العربية أو خارجها. الولايات المتحدة لم تعد الطرف الممسك بخيوط اللعبة، بل تحاول احتواء الانفلات بأدوات محدودة. الخطاب الرسمى حول غزة ليس سوى محاولة للتغطية على أزمة أعمق.
هذه المعطيات، من وجهة نظري، تفسر لماذا تبدو الإدارة الأمريكية عاجزة عن تقديم تصور واقعى لغزة أو غيرها.. نعم، يطرح البيت الأبيض خطة متشعبة التفاصيل، لكنه عاجز عن الإحاطة بتعقيداتها، فى ظل انعدام الأدوات الإستراتيجية اللازمة لحسمها.
من هنا تنبثق الطمأنة الواقعية: الخوف من الولايات المتحدة كقوة قادرة على فرض ما تشاء على المنطقة لم يعد مبررًا.. ما نراه اليوم هو قوة منهكة تحاول إخفاء أزماتها الداخلية بخطابات خارجية، ورغم استعراض القوة تبقى الفجوة واضحة.
«وهم» الإنقاذ
من هنا، يمكن فهم لماذا تبادر الولايات المتحدة إلى فتح جبهة «إعلامية-كلامية» لا «عسكرية-ميدانية» فى الشرق الأوسط. تصوّر دونالد ترامب «فى صيغته الأولى أو حتى المعدلة» ليس مبادرة مدروسة، بل ترجمة لأزمة عميقة. كل بند يبدو محاولة للهروب إلى الأمام، لشراء الوقت، لإقناع الداخل أكثر مما يقنع الخارج.
الولايات المتحدة لا تستطيع الانسحاب من دعم إسرائيل خوفًا من انهيار حليفها الأكثر التصاقًا بمشروعها فى المنطقة، لكنها أيضًا لا تستطيع المضى فى دعمه بلا حساب، لأن التبعات تتسع لتطال مكانتها الدولية وعلاقاتها مع شركاء أساسيين فى الإقليم. التصوّر المطروح حول «إدارة غزة» محاولة للتغطية على الفشل فى معالجة جوهر الأزمة.
الاحتلال والهيمنة لا يمكن أن ينتجا سلامًا.. وحين تقبل إسرائيل التصوّر المقترح، تدرك أنه ليس ضمانًا للانتصار، بل وسيلة لتجنّب الانهيار.. لذلك تأتى الخطط المشتركة «كما فى خطة غزة» فارغة من العمق الإستراتيجي، محاولات لتثبيت صورة القوة بينما الحقيقة على الأرض تسير فى الاتجاه المعاكس.. مأزق متزايد، عجز عن الحسم، وإحباط داخلى ينعكس فى تراجع الروح المعنوية. قراءة المستقبل من هذه الزاوية تمنح طمأنة حقيقية.
ورقة البيت الأبيض «مبادرة ترامب» توضح أن الإدارة الأمريكية تعيد إنتاج خطاب قديم بعبارات جديدة. عناوين براقة مثل «غزة الخالية من الإرهاب»، «إعادة الإعمار»، و»فرص الاستقرار»، تخفى وراءها فراغًا سياسيًا لا يمكن ملؤه بسهولة. الخطة ليست سوى محاولة لتسويق الوهم. تفترض أن الأطراف ستتصرف كما لو كانت قطعًا على رقعة شطرنج يمكن تحريكها بإشارة من الخارج، على اعتبار أن غزة أرض منهكة وليست مجتمعًا له ذاكرة ووعى وتجربة صمود طويلة.
الخطة وُلدت من رحم الأزمة المشتركة لواشنطن وتل أبيب.. لا تُهدئ روع الكارثة.. لا توجد قدرة عملية على تنفيذها بالآليات المعلنة.. تشكيل لجنة فلسطينية «تكنوقراطية» تحت إشراف مجلس يرأسه، ترامب، لا يغيّر حقيقة أن الشرعية الفلسطينية لا تُمنح من الخارج، ولا يمكن لأى قوة دولية أن تفرض إدارة مقبولة فى غزة إذا لم يكن هناك قبول محلي.
افتراض نزع سلاح شامل بإشراف مراقبين دوليين يتجاهل حقيقة أن السلاح فى غزة ليس مجرد أدوات قتالية، بل رمز للمقاومة «الحقيقية-المتجذرة» فى وعى المجتمع، بعيدًا عن الفصائل التى حاولت احتكار هذا الدور خلال العقدين الماضيين.
مجرد وجود بند يتحدث عن إشراف ترامب وتونى بلير على «مجلس سلام» كفيل بإظهار الطابع المسرحى للمقترح. ومجرد الحديث عن إطلاق «حوار للأديان لتغيير المفاهيم» يكشف عن سطحية الفهم لجذور الصراع. هذا كله ليس مدعاة للخوف، بل دليل على أن البدائل التى يملكها الخارج ضعيفة ومهلهلة.
المشاريع الأمريكية-الإسرائيلية ليست سيناريوهات جاهزة ستُفرض على الأرض، بل أوراق ضغط إعلامى وسياسى تعكس مأزق من صاغها أكثر مما تعكس قدرة على السيطرة.. من يقرؤها بوعى يدرك أن الكلمة الأخيرة لم تُكتب بعد، وأن ما يبدو كأنه «خطة سلام» ليس إلا غطاءً لأزمة عميقة يعيشها من أرادوا احتكار مصير المنطقة.، لكن الوهم لا يصمد طويلًا حين يُختبر أمام صلابة الواقع.
الوهم الأكبر فى مثل هذه التصورات هو تجاهل الكلفة البشرية والسياسية. أى خطة لا تبدأ من الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا تراعى أن غزة ليست مجرد ملف إنسانى بل جزء من قضية تحرر قومي، محكوم عليها أن تبقى حبرًا على ورق.
الخطط المشابهة من قبل «السلام الاقتصادى.. صفقة القرن.. ووعود «إعادة الإعمار» بعد كل حرب»، انهارت أمام صلابة الواقع، لأنك لا تستطيع شراء صمت شعب تحت الحصار مقابل بضعة مشاريع استثمارية، ولا تفكيك قوى ثورية منظمة بمجرد تقديم عفو أو فتح ممرات للخروج.
من يتابع صورة المنطقة كما تصوغها نشرات الأخبار «الدولية، وتلك التابعة لها فى الإقليم»، يخرج بانطباع أن المستقبل مغلق الأفق، وأن مشروع الهيمنة الأمريكية–الإسرائيلية تحوّل إلى قدر سياسى لا يُرد.. كل ذلك يثير قلقًا، كما يثير ارتباكًا لدى معظم النخب السياسية والفكرية التى ترى التوازنات تتغير بسرعة يصعب اللحاق بها.
القلق مشروع، يتغذى من صور الخراب فى غزة، ومن شعور بأن القوى الكبرى تفرض إيقاعها دون اعتبار لمصالح المنطقة. لكن هذه الصورة ليست كاملة. الخطر يبدأ حين يتحول هذا القلق إلى شعور بالشلل وفقدان الثقة بالقدرة على المواجهة. هنا يصبح الخوف ذاته أخطر من أى خطة أمريكية–إسرائيلية. فإذا كان القلق الشعبى مبنيًا على افتراض أن واشنطن وتل أبيب تمسكان بكل الخيوط، فإن الواقع يكشف أنهما بالكاد تسيطران على خيوطهما الداخلية.
لا يعنى هذا أن التهديد انتهى أو أن المخاطر تلاشت، لكنه يعنى أن الزمن لا يعمل لصالح مشروع السيطرة، بل يعمّق تناقضات الداخل الأمريكي- الإسرائيلي، ويمنح الأطراف العربية مساحة أوسع لالتقاط الأنفاس وبناء البدائل. المشهد العربى اليوم معقد، لكنه ليس خاليًا من عناصر القوة. ما يجعل الصورة قاتمة هو أن الخطاب العام يركّز على المخاطر والانقسامات، ولا يلتفت إلى الرصيد الكامن فى الجغرافيا والديموغرافيا والذاكرة.
حين ننظر إلى المنطقة من زاوية الأزمات فقط، نغفل حقيقة أن الشعوب العربية لا تزال تمتلك إمكانات تجعلها قادرة على الصمود والتجدد. التجربة المصرية بعد عدوان 5 يونيو 1967 وصولًا إلى نصر أكتوبر 1973 تقدّم الدرس الأوضح: حتى فى لحظة الانكسار، استطاعت الأمة أن تستعيد ثقتها وأن تحوّل المستحيل إلى واقع.. الفرق بين الهزيمة والانتصار لم يكن فى السلاح فقط، بل فى الوعى الجمعي، وفى الإيمان بأن التاريخ لا يتوقف عند محطة واحدة.
الطمأنة لا تأتى من مصر وحدها.. فى الإقليم العربى أبعاد أخرى للقوة الصامتة.. الموارد الطبيعية، من النفط والغاز إلى الثروات المعدنية والزراعية، تمنح المنطقة أوراقًا اقتصادية لا تزال مؤثرة فى السوق العالمي.. فى لحظات الأزمات، يتضح أن هذه الموارد ليست مجرد مصادر دخل، بل أدوات ضغط واستثمار سياسى.
النخب العربية، وإن بدت فى حالة ارتباك، تستطيع أن تلعب دورًا فى إعادة صياغة المزاج العام. ليس المطلوب إنتاج شعارات عن «الوحدة» أو «التضامن»، بل استعادة ثقة الناس بأنهم ليسوا مجرد متلقين لقرارات تأتى من الخارج. فالقوى الكبرى نفسها لم تعد تملك رفاهية فرض مخططاتها من دون أن تواجه حسابات الأرض.
المشروع الأمريكي- الإسرائيلى الأخير يعكس أزمة أكثر مما يعكس قوة. ما يجعل الناس يخافون منه ليس صلابته، بل هشاشتهم النفسية أمامه.
صحيح أن الإقليم يعيش اهتراءً سياسيًا واقتصاديًا، لكن الصحيح أيضًا أن لحظات الانبعاث جاءت دائمًا من رحم الأزمات الكبرى. بعد كل انهيار.
المستقبل الإقليمى
أول ملامح المستقبل هو صعود التعددية الدولية. لم تعد واشنطن اللاعب الوحيد، فالصين تعمق نفوذها الاقتصادى عبر «الحزام والطريق»، وروسيا تبنى شبكات نفوذ عسكرى وسياسى رغم أزماتها. أوروبا تبحث عن استقلال نسبي. هذا التعدد يمنح العرب مجالاً أوسع للمناورة، إذ لم يعد هناك وصى واحد، بل تنافس بين قوى كبرى يمكن استثماره.
تراجع الصورة المزعومة لإسرائيل يرافقه وعى عالمى متنامٍ بعدالة القضية الفلسطينية، مع تراجع التأييد الأعمى فى الغرب. الأجيال العربية الجديدة أكثر وعيًا، متصلة بالعالم، وقادرة على التنظيم بطرق غير تقليدية. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تدفع الدول العربية للبحث عن بدائل وشراكات أوسع، ما يضعف هيمنة واشنطن، والزمن يكشف هشاشة المشاريع ويعيد تشكيل المستقبل وفق قوانين التوازن.
الوضع الحالى لا يعكس قوة مطلقة أمريكية- إسرائيلية، بل ضيق الخيارات المتاحة لهما. الضغوط الداخلية على البيت الأبيض، والمجتمع الإسرائيلى على حكومته، والتحولات الإقليمية تجعل فرض القرارات الكبرى أصعب بكثير.. الإدارة الأمريكية عاجزة عن معالجة انقساماتها، وإسرائيل غير قادرة على حماية نفسها بالكامل.. كل التصورات والمبادرات الحالية مجرد انعكاس لهشاشة المشروع، والزمن يعمل ضدها، والقوة لم تعد فائضة.