فى الليلة التى أضاء فيها اسم مصر من جديد فى سماء العالم، بدا وكأن الأهرامات نفسها تبتسم، وكأن حجرًا من أحجار الكرنك القديمة استعاد صوته ليقول: إن الحضارة لا تموت، وإن من علَّم العالم معنى الخلود لا يمكن أن يُغيب عن مسرح الإنسانية طويلاً. فوز المرشح المصرى برئاسة منظمة اليونسكو لم يكن صدفةً ولا مجاملةً دبلوماسية، بل هو عودة طبيعية لبلدٍ وُلدت فيه أول حروف التاريخ، وخرجت منه إلى الدنيا شرارة الفكر والمعرفة والجمال.
من قلب مصر التى صاغت على جدران معابدها فلسفة الخلق والنظام، يتجدد اليوم وعد الحضارة القديمة بأن تكون مصر وصيةً على ضمير العالم الثقافي، وسيدة الكلمة فى حوار الإنسانية مع تراثها. فحين تسلِّم الأمم إرثها المعنوى إلى مصري، فهى تعترف ضمنًا بأن نهر النيل ما زال يجرى فى شرايين الثقافة العالمية، وأن الحضارة التى شيّدت الأهرامات قادرة بعد آلاف السنين على أن تبنى جسور الفكر بين الشعوب.
لم يكن هذا الإنجاز وليد لحظة منفردة، بل ثمرة تخطيط دقيق وجهدٍ دؤوب من الدولة المصرية ومؤسساتها، التى آمنت بأن الثقافة هى القوة الناعمة الأعمق أثرًا والأبقى حضورًا. فمنذ سنوات، وضعت مصر نصب عينيها أن تعود إلى مقعدها الطبيعى فى الصفوف الأولى لصناع القرار الثقافى فى العالم، فجاءت الجهود المتواصلة من وزارة الخارجية، التى أعادت رسم خريطة التحالفات الدولية على قاعدة الاحترام المتبادل والإيمان بالدور المصرى التاريخي. تلك الدبلوماسية الهادئة التى يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسى برؤية تستلهم الماضى وتستشرف المستقبل، هى التى فتحت الطريق أمام هذا النصر الحضاري.
لقد كان صوت مصر فى معركة رئاسة اليونسكو أقرب إلى نداء من عمق الزمن، يحمل رائحة البرديات القديمة ونقوش الأجداد على جدران وادى الملوك. صوتٌ يقول إن مصر لم تكن يومًا تابعةً أو متفرجة، بل كانت دائمًا المعلم الأول، واليد التى أمسكت بمشعل النور حين كان العالم يكتشف نفسه. واليوم، تعود تلك اليد لتضيء من جديد، لا لتباهى بماضيها، بل لتقود المستقبل نحو مزيد من الوعى بالتراث، والاحترام للتنوع الثقافي، والإيمان بأن الإنسانية نسيج واحد مهما اختلفت ألوان خيوطه.
فى هذا الفوز، تقف الأهرامات شامخة كأنها تراقب أحفادها وهم يرفعون راية البلاد فوق منبر العالم. فى وجه كل حجر من أحجارها تلمع ملامح المصرى الجديد الذى ورث من أجداده القدرة على الحلم والعمل والإصرار. إن تولى مصرى إدارة اليونسكو هو تتويج لميراثٍ طويل من العطاء الثقافى والمعرفي، ورسالة بأن مصر ليست فقط مهد الحضارة، بل حارستها الأمينة، القادرة على صون تراث البشر كما صانت عبر القرون تراثها الوطني.
العالم اليوم يحتاج إلى رؤية مصرية، لأن مصر تعرف كيف تجمع بين القدم والحداثة، بين الحكمة والجرأة. فى زمنٍ تضيع فيه الحدود بين الماضى والمستقبل، تأتى مصر لتذكّر الجميع بأن التاريخ ليس عبئًا على التقدم، بل هو أساسه الصلب. فكما شيد الفراعنة أعمدتهم لتبقى فى وجه الزمن، تشيد مصر اليوم أعمدة جديدة للثقافة والمعرفة والضمير الإنساني.
لم يكن الطريق إلى هذا المجد سهلًا، فقد خاضت الدولة معركة شريفة فى أروقة الدبلوماسية العالمية، جندت لها عقولها وسفراءها وإيمانها بذاتها. وقد جاءت توجيهات الرئيس السيسى واضحةً منذ البداية: أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعى فى قلب المؤسسات الدولية، وأن يكون للثقافة المصرية صوتٌ مسموع فى صياغة مستقبل الوعى الإنساني. وها هى النتيجة تبرهن أن الرؤية كانت صائبة، وأن من يؤمن بقوة بلاده يجد العالم كله يفتح له أبوابه احترامًا وتقديرًا.
اليوم، حين يُرفع العلم المصرى أمام مقر اليونسكو، سيتردد فى أروقة المنظمة صدى كلمات الحكيم المصرى القديم: “ما يُبنى بالعقل يبقى إلى الأبد”. فالعقل المصرى الذى أبدع فنون العمارة والطب والفكر منذ آلاف السنين، هو ذاته الذى يعود اليوم ليقود العالم نحو مزيد من الوعى بأهمية الثقافة والتعليم وحماية التراث الإنساني.
مصر لا تدخل اليونسكو من باب الوظيفة، بل من باب الرسالة. رسالة تقول إن الحضارة لا تُقاس بماضٍ يُحكي، بل بحاضرٍ يُصنع. وإن من يملك مفاتيح التاريخ، يملك أيضًا حق فتح أبواب المستقبل. فها هو العالم يُسلّم تراثه إلى المصريين، مطمئنًا أن ما فى أيديهم أمانة لا تضيع، وأن مصر التى حفظت أسرار الزمن ستعرف كيف تحفظ ذاكرة الإنسانية بأكملها.