بقلم : حلمى النمنم
أوقات الأزمات ولحظات الفصل فى مسيرة الوطن –أى وطن– تكون كاشفة وصريحة، لا تحتمل الألوان والمواقف الرمادية ولا الشخصيات الضبابية، لا تتقبل قدم هنا وأخرى هناك، فى الضفة الاخري، قد يحدث ذلك من بعض الانتهازيين والمتملقين وقد يمر شخصيات من هذا النوع فى الأوقات العادية، يصبحون مادة للنميمة والتفكه أو التندر فى جلسات التسلية، لكن لا يمكن احتمال هؤلاء ولا تقبل وجودهم فى لحظات الأزمات الكبري.
حالة الحرب والصراع العسكرى مع عدو، هى أشد الحالات كشفا لمعادن وصلابة البشر، من اختار الوطن، مقاتلا ومدافعا عنه، فى كل ميدان ومن قرر السير فى الاتجاه المضاد، وقد يخون الوطن أو يتربص ليتاجر ويتربح من المعركة.
حرب أكتوبر العظيمة سنة 1973، حالة مثالية، حيث تم عبور مانع مائى مزروع بأنابيب النابالم وتدمير ساتر ترابي، كان مقدرا له أن لا يسقط إلا بقنبلة نووية ثم اقتحام النقاط الحصينة فى خط بارليف، كل هذا الإعجاز يتم فى ست ساعات فقط، حرب أكتوبر نموذج دال فى التاريخ المصرى والعربي، فضلا عن التاريخ العسكرى كله، عرفنا الأبطال من القادة الكبار والضباط والجنود، صناع النصر العظيم، شهداء قدموا أرواحهم وبذلوا دماءهم فداء الأرض والشرف الوطني.
الرائد طيار عاطف السادات شقيق الرئيس السادات، القائد الأعلى للقوات المسلحة يستشهد فى إحدى الطلعات الجوية، الشهيد القائد أحمد حمدي، عشرات الأسماء من قادة وضباط كبار كانوا جميعا على خط النار، بين جنودهم، لم يقودوا المعركة من مكاتب فى العاصمة، القائد العام للقوات المسلحة كان شبه مقيم فى غرفة العمليات العسكرية.
خارج جبهة القتال ومواقع النيران، وجدنا الجميع ينحون خلافاتهم وأزماتهم الخاصة وانصهر الجميع فى بوتقة واحدة، كان نائب رئيس الجمهورية السابق على صبرى فى خلاف حاد مع الرئيس السادات، انتهى الخلاف بإقالته ثم محاكمته ودخل السجن، ولما نجحت قواتنا المسلحة فى عبور قناة السويس بعث برقية عاجلة إلى الرئيس يهنئ بالنصر، ورد عليه الرئيس ببرقية تقدير، واستمر فى السجن.
هذا ليس نموذجاً نادراً فى كافة حروب مصر، كانت هناك نماذج عديدة مشابهة، سواء فى العهد الملكى أو فى حروب ما بعد ثورة يوليو 1952.
> > >
مع نشوب الحرب العالمية الأولي، عزلت بريطانيا الخديو عباس حلمى الثاني، لاتهامه بالتعاطف مع ألمانيا، امتد الغضب البريطانى إلى رجال الخديو ومنهم أحمد شوقى «أمير الشعراء»، وتولى السلطان حسين كامل حكم مصر، اخذ السلطان ينظر شذرا لرجال الخديو، خاصة أن عباس حلمى راح يطالب بحقه فى العودة إلى العرش، وهتف الناس فى الشارع بعودته «الله حي.. عباس جي»، وهكذا بات شوقى مغضوباً عليه من سلطات الاحتلال، محسوبا لديهم على المتعاطفين مع الألمان، منبوذًا من رجال القصر الجدد، ولذا راح الجميع يتجنبونه، لا أحد يريد الاقتراب منه، أما الوسط الثقافى من شعراء ونقاد، فكانوا يصرون على أنه «شاعر القصر»، ينظرون إليه بضجر شديد، موقف العقاد ومدرسة الديوان منه معروف، وهكذا واجه شوقى مصاعب فى كل ناحية، لكنه لم يقايض بالوطن ولا باع، لم يضع وطنيته فى ميزان المنافع ولا حساب المكاسب، هو القائل:
وطنى لو شغلت بالخلد عنه/نازعتنى إليه فى الخلد نفسي.
وفى كثير من المواقف الوطنية كان شعره حاضراً وقوياً.
كانت فرنسا تتمنى أن يرحل إليها شوقى وأن يقيم هناك، خاصة أنه درس بها فى شبابه، وتمنت أسبانيا لو لم يغادرها، لكنه ما رضى بمصر بديلاً ولا توقف عند منغصات يتعرض لها من هذا وذاك.
وطنية شوقى تستحق أن نتوقف عندها طويلاً وأن يستوعبها بعض ببغاوات المجتمع.
فى أثناء المواجهة مع الاحتلال البريطانى فى منطقة القناة بعد إلغاء معاهدة سنة 1936، وجدنا ضباطًا بالجيش، استقالوا وضحوا بالمستقبل الشخصى وذهبوا إلى القتال فدائيين، منهم من استشهد ومن أصيب ومن عاد بعدها يبحث عن عمل، فقط أحبوا الوطن وأخلصوا له.
وفى أثناء العدوان الثلاثى تطوع مئات من المواطنين دفاعاً عن بورسعيد وعن منطقة القناة ومنهم من استعد هنا تحسباً من أن يمتد العدوان الثلاثى إلى العمق المصري.
نماذج عديدة لمواطنين لم يكونوا على وفاق سياسى مع الحكومة لكنهم لحظة العصف انحازوا إلى الوطن.
اللواء محمد نجيب والذى كان غادر كل مناصبه وابعد عن أى مسئولية، طلب أن يسمح له بأن يعود مقاتلاً ومدافعـاً عن بلده، لم يتوقف عند موقــع مهــم فقـده.
فى الجانب الآخر، كان هناك من خان ومن حاول أن يبرر الخيانة، بل يمنحها قدراً من المشروعية.
فى أثناء العدوان الثلاثي، كان هناك صحفى كبير اختلف مع بعض توجهات القيادة المصرية، لم يكن وحده فى ذلك، لكنه وحده كان من ذهب إلى السلطات البريطانية، أثناء العدوان الثلاثى يعمل بها وقام بعدة مهمات كلفته بها المخابرات البريطانية، ولما فشل العدوان وباءت بريطانيا العظمى بالخسران، تكشف كل شيء، وثائق عديدة كشفت تؤكد العمل مع المخابرات البريطانية، لكن من يحاولون تبرير الخيانة والدفاع عن مرتكبيها، قالوا ومازالوا يقولون إنه «لم يكن يعمل ضد مصر، بل ضد جمال عبدالناصر».
فى حالة الحرب والعدوان فإن العمل ضد قائد البلاد هو حرفياً يعنى العمل على إلحاق الهزيمة بالبلاد.
الخلاف السياسى له طرق عديدة للتعبير، أهمها ألا تكون البلاد فى حالة حرب، خاصة إن كانت تواجه عدواناً شرساً وغير مبرر من ثلاث دول، بينها اثنتان كانتا وقتها من الدول العظمي.
الخلاف السياسى كذلك لا يدار من خارج الحدود ولا يمارس عبر جهاز مخابرات دولة تشن العدوان علينا، كما أنه لا يكون باستعداء دول أجنبية على البلاد.
الغريب أن ذلك الذى تعاون مع بريطانيا لحظة عدوانها علينا، يجد إلى يومنا هذا من يحاول تبرير فعلته ويدافع عنه.
>>>
وفى أثناء حرب الاستنزاف، تبين وجود اختراق ما، حيث كانت المعلومات لدى العدو عن بعض العمليات القتالية، بالتدقيق والبحث تم الوصول إلى الجاسوسة هبة سليم، تخرجت من قسم اللغة الفرنسية بجامعة عين شمس وحصلت على منحة للدراسة فى فرنسا، هناك تم تدريبها وتجنيدها من الموساد وكونت شبكة معلومات وتجسس خطيرة لحساب إسرائيل، وطلب الرئيس السادات سرعة إخراجها من باريس وإحضارها إلى مصر، وقد كان، وعنها كتب الراحل صالح مرسى رواية «الصعود إلى الهاوية «، تحولت إلى فيلم سينمائى رفضت فاتن حمامة القيام ببطولته فأسندت البطولة إلى مديحة كامل، نفذ فيها حكم الإعدام بعد انتصار أكتوبر 73.
فى التحقيقات وأمام النيابة رفضت بشدة الاتهام الموجه إليها «الخيانة العظمي»، وأنها لم تخن مصر.
كيف..؟ سألها المحقق
أجابت: أنها تحب مصر ولهذا تعاونت مع العدو، وكانت تسلمهم الأخبار والأسرار العسكرية المصرية، لتمنع الجيش المصرى من الدخول فى حرب، لأن أى معركة لن تكون فى صالح مصر ومن ثم فإنها تريد أن تحمى الجيش والبلد من تكرار الهزيمة.
حاولت إثبات أنها تحب مصر والنظام السياسي، فعرضت أن تقدم قائمة كاملة بالطلاب اليساريين المصريين فى باريس وأوروبا، الذين ينتقدون أداء الحكومة المصرية والرئيس السادات شخصياً، أثبتت بذلك أن الخيانة متأصلة داخلها، فضلاً عن التدريب المكثف الذى تلقته من الموساد.
فى النهاية كانت مصرة على أنها لم تخن.
فى التجسس والخيانة، ليست الأعمال بالنيات، بفرض أن النية صادقة وخيرة فعلاً، لكنها بالفعل ذاته، الخوف على مصر وجيشها من خوض معركة لا يعنى الذهاب إلى العدو والعمل معه بالتجسس على قواتنا وبلادنا، ورفض سياسة حاكم يكون من خلال حزب سياسى والعمل العام فى داخل البلاد، ليس من خارجها وعبر اقبية جهاز مخابرات دولة معادية.
ومن حسن الحظ أن الأجهزة المصرية طوال الاستعداد لحرب التحرير فى أكتوبر 73، أمكن لها اكتشاف العديد من الجواسيس والعملاء «الخونة».
>>>
عادة تقع الخيانة من فرد، يضعف وينهار لأسباب وظروف نفسية واجتماعية، إنسانية خاصة، منهم من يصل فى الطريق إلى الهاوية، نتيجة عملية غسيل كامل للمخ كما فى حالة هبة سليم أو لغلبة المصالح والبيزنس الخاص، كما جرى من أحدهم خلال العدوان الثلاثى على مصر وكما رأينا فى بعض الحالات فى إيران وجنوب لبنان هذا العام.
أما أن يقوم تنظيم أو جماعة بتلك العملية من الخيانة والعمل لصالح العدو، هذا ما حدث بالضبط أثناء حرب 1948.
كان الجيش المصرى فى حرب فلسطين، ولم تنته الحرب بعد، بعض قواتنا تحت الحصار فى منطقة الفالوجا بفلسطين.
وسط هذا كله يقوم حسن البنا وجماعته التى أسماها «الإخوان المسلمين» بتفجير الجبهة الداخلية، قنابل فى بعض المحلات العامة والشوارع، اغتيال أحد رجال القضاء وتوعد عدد من الشخصيات العامة بالاغتيال، بإزاء هذا كله، قام الحاكم العسكرى للبلاد وهو فى الوقت نفسه رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى «باشا» بحل الجماعة، الهدف تأمين البلاد وحماية الجبهة الداخلية وقت الحرب.
عادة، قرار مثل ذلك، يمكن الطعن عليه أمام القضاء، ويمكن كذلك انتظار تغيير الحكومة وتأتى حكومة أخرى تعيد النظر فى هكذا قرار، غالباً كان ذلك يحدث فى حالات عديدة.
لكن حسن البنا أبى ألا أن يقتل رئيس الوزراء نفسه وكلف السندى بذلك، بعد الجريمة حاول حسن البنا التملص وإلقاء المسئولية على السندى وحده، الأخير واجهه فى اجتماع للجماعة بأنه أعطاه أمرًا مباشرًا بالقتل، فاقترح البنا أن تدفع الجماعة الدية إلى أسرة القتيل «التفاصيل فى مذكرات د.عبد العزيز كامل».
وهكذا فإن الجماعة فى1948 قدمت للعدو، لحظة الحرب، العديد من الخدمات أبرزها تفجير الجبهة الداخلية ثم اغتيال الحاكم العسكري، أى القائد الفعلى للحرب، كان النقراشى هو من طالب فى اجتماع مجلس الشيوخ بالموافقة على دخول الحرب، يبدو أن الاغتيال كان عقاباً له على ذلك القرار وعلى قراره السابق برفض الطلب الأمريكى بتهجير ثمانين ألف فلسطينى «قسرياً» إلى مصر.
جماعة خائنة منذ مؤسسها الأول.
هنا الخيانة ليست انحراف أو انهيار فرد، بل توجه أساسى لدى تنظيم بدأ بالإرهاب، الإرهاب ذاته فعل من أفعال الخيانة.
وطن وشعب عظيم أمام جماعة قامت على خيانة الوطن والشعب معًا.
حما الله مصر والمصريين من الخيانة والخونة.