واجهت غزة حربا «عالمية» بمعنى الكلمة، اجتمع ضدها أمريكا وأوروبا، والغرب والشرق، بعدما استطاع الصهاينة أن يقنعوا العالم بالكذب والبهتان بأن حماس تهدد وجودهم، ولا أبالغ إذا قلت إن الجميع قد تخلى عنهم إلا مصر التى وقفت بكل قوة وحكمة، ورفضت الإبادة وجرائم الجيش العبرى، وقالتها صريحة لا للتهجير، بعد أن كانت خطة إجلاء سكان القطاع قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ، واستطاعت القاهرة – وحدها – أن تفسد الطبخة التى تم تدبيرها بليل فى واشنطن، لتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ورغم ما تعانيه غزة وشعبها كل لحظة على مدى عامين من مذابح وإبادة وتنقلات قسرية فوق طاقة البشر، ومجاعات وقصف بكل الأسلحة الحديثة، واستهداف للمستشفيات ومنع العلاج، والمشاهد التى تدمى القلوب، وجدنا من يعارض خطة ترامب لوقف الحرب، وفوجئت بردود فعل – أراها غير متزنة وغير منطقية – بزعم أنها استسلام ولمصلحة إسرائيل، ولا تحقق أهداف المقاومة، لكن تلك الرؤية تتجاهل ما يلقاه الفلسطينيون يوميا، ومن جانب آخر لا ينظرون إلى الجانب الإيجابى من وقف القتل والدمار وعدم تهجير أهل غزة، ودخول المساعدات والاحتياجات الأساسية وتوقف المعاناة التى واجهوها، وتسليم إدارة غزة لهيئة فلسطينية، ولا نقف أمام المناضلين على الورق والمقاتلين على وسائل التواصل، الذين يكتفون بالصراخ ويرتدون أقنعة الشجاعة، وهم يتكئون على الأرائك فى المكاتب المكيفة، ولا يقدرون المواقف، عن جهل أو مكر ونوايا سيئة.
لذا فإن الحديث عن رفض «السلام» فى غير موضعه من الذين لا يقدرون الأرواح التى تزهق كل يوم، ويجعلون المقاومة تقتصر على القتال، ويتجاهلون أن السياسة أيضا وسيلة للمقاومة، وقد أصبح هذا الخيار مطروحا وبقوة بعدما كانت إسرائيل ترفضه وتضرب بكل محاولات التفاوض عرض الحائط، ومن ثم لا نغفل أن من ثمار المقاومة ما تحقق من المزيد من الاعترافات بالدولة الفلسطينية ورفض الممارسات الإسرائيلية والتحول الكبير وغير المسبوق فى المواقف الدولية المؤيدة للحق الفلسطينى، ومن ثم كان من الحكمة قبول حماس خطة ترامب والبناء عليها وتحقيق المزيد من المكاسب بالتفاوض، ولا يجب أن نقف عند القتال خاصة فى ظل عدم التكافؤ فى القوة والإمكانات بين المقاومة وجيش الاحتلال، ثم إن باب المقاومة بشتى السبل لم يتم إغلاقه، بل كل الطرق مفتوحة ومتاحة، و«إن عدتم عدنا».
أظن يقينا أن موافقة حماس، قد وضعت إسرائيل فى موقف محرج وارتباك أيضا، لأنهم بنوا موقفهم على احتمال خطأ، كانوا واثقين من أن الحركة سترفض أى مبادرة لوقف إطلاق النار وبالتالى يجد الصهاينة المبرر للقضاء على البقية الباقية من غزة، وحينها يكون لهم الحق أمام العالم بأن حماس هى التى ترفض السلام، لكن جاءت الرياح بما لا يشتهى النتن ياهو ووافقت الحركة وأجهضت مخططاته الخبيثة.
ولا أقول ذلك تكهنا ولا رجما بالغيب، وإنما من واقع القراءة الجيدة للفكر الصهيونى وسياسة الدولة العبرية، فقد نقلت القناة 12 العبرية عن مسئول إسرائيلى، بأن احتفاء ترامب برد «حماس» على مقترح وقف إطلاق النار، فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلى مرتين، فإسرائيل اعتبرت رد الحركة رفضا للمقترح ثم جاءت إشادة ترامب بها، وقال إن حماس مستعدة للسلام الدائم، وهذه المفاجأة الأولى، أما الثانية فكانت أمر ترامب لإسرائيل بالتوقف الفورى عن قصف غزة، إلا أن جيش الاحتلال مازال يواصل عملياته وبعنف كما هى.
مع ذلك، لست متشائما، ولست مفرطا فى التفاؤل، بأن الأمور ستكون على ما يرام، فلا أستبعد استمرار اليهود فى أساليبهم الملتوية فى اختلاق العراقيل، واللجاحة فى التفاوض ووضع العقبات، وهذا يحتاج إلى الصبر والنفس الطويل، ولا ننسى أن مصر قد حصلت بالتفاوض أكثر مما حصلت بالقتال بعد حرب أكتوبر المجيدة، وبفضل الله كانت لنا اليد العليا حربا وسلما، وبهذه المناسبة كل عام وقواتنا المسلحة بخير ومصرنا فى عزة ورفعة.