لم أشعر بالراحة من تسمية التدخل الأمريكى الأخير فى أزمة غزة بـ»خطة» فلماذا مثلا لم يسمها «مقترحًا» أو «ورقة»؟ فكلمة «خطة» فى حد ذاتها تنطوى على خداع, والحلول يسبقها كلمات من عينة مقترح بديل مسعى وهكذا لكن على كل حال لن نقف على الكلمة, فى ظل الحاجة الماسة لإنهاء المأساة الإنسانية الممتدة لعامين,سواء بخطة أو بأى شيء.
خطة الرئيس الأمريكى تضع حركة حماس أمام خيارين كلاهما مر ويتوجب عليها اتخاذ قرار هوالأصعب منذ بدء الحرب فإما القبول بالخطة وتسليم الأسرى الإسرائيليين آخر أوراق القوة لديها مقابل وعد مبهم بانسحاب عسكرى إسرائيلي، وإدارة مؤقتة متعددة الجنسيات، وتحول لاحق نحو سيطرة أمنية فلسطينية بشروط تعادل عمليا الاستسلام، أو رفض الخطة وتلقى وعود التدمير لما تبقى من غزة حيث سيطلق ترامب يد نتنياهو لمزيد من القصف والإبادة بدعم أمريكى معلن.
صوت العقل يقول أن وقف حرب الإبادة وإنقاذ الأرواح وإدخال المساعدات لسكان القطاع هدف يستحق التضحية من أجله ومن ثم لا ينبغى على حماس رفض الخطة وفى نفس الوقت من حقها طلب إيضاحات وتفسيرات للنقاط المبهمة الموجودة بالفعل فى هذه الخطة وكلها تقريبا متعلقة بالالتزامات على الاحتلال فالمطلوب من حماس ستنفذه وفق الخطة فوريا ودفعة واحدة بينما المطلوب من الاحتلال تم صياغته بلغة مطاطية فمثلا فيما يخص موضوع الانسحاب من غزة تقول الخطة أنه سيتم تدريجيا ولم تضع جدولاً زمنيًا لهذا الانسحاب وتم ربطه بنزع سلاح حماس، على أن يتم التفاوض بشأن الإنسحاب بين الجيش الإسرائيلى وقوة دولية لتحقيق الاستقرار، وهذا يترك وتيرة الانسحاب ومداه تحت السيطرة الإسرائيلية تقريبا مما يمنح نتنياهو مساحة واسعة للتأجيل أوتقويض الخطة بأكملها.
فى حين تستبعد الخطة طرح التهجير الذى قدمته خطة ترامب الأولى و المعروفة إعلاميا بـ»ريفيرا غزة» تفتقر الخطة الحالية إلى جداول زمنية واضحة أو إستراتيجيات لإعادة الإعمار أو أفق سياسى وتقترح نموذجًا لإدارة غزة عبر «مجلس سلام» يترأسه الرئيس ترامب شخصيا ويديره رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير «أحد مهندسى حرب العراق» مع أطراف دولية عربية وأجنبية و تكنوقراط وأموال أجنبية مع عدم توضيح المعايير التى يتم بها الاختيار وهل روعى حق الشعب الفلسطينى فى اختيار من يدير شئونه أم أنه مجلس بنكهة إمبريالية تبقى على سيطرة إسرائيلية غير محددة المدة لاسيما وأنه عندما طرح السؤال عن دور السلطة الفلسطينية صاحبة الولاية الشرعية على قطاع غزة قال الرئيس ترامب إنها سيكون لها دور بعد إجراء الإصلاحات الهيكلية بها ولا نفهم ماهية هذه الاصلاحات,وهل مثلا هى إصلاحات تطلبها إسرائيل أم إصلاحات تراعى العدالة والمنطق وحقوق الإنسان,وبماذا يرد ترامب على نتنياهو وأفراد حكومته الذين يصرحون ليل نهار وحتى بعد الإعلان عن خطة ترامب أنه لامكان للسلطة الفلسطينية فى اليوم التالي, حيث أعلن سكرتير الحكومة يوسى فوكس بالفعل أن السلطة الفلسطينية لن تحكم غزة أبدا، وأن الخطة لن تؤدى إلى قيام دولة فلسطينية، وهو موقف يشاركه فيه نتنياهو وائتلافه بالكامل؟.
النسخة النهائية من خطة الرئيس ترامب أُفرِغت من مضمونها عبر ثغرات صيغت لإرضاء الاعتبارات السياسية الإسرائيلية الداخلية، مما يقوّض مصداقيتها لدى الأطراف الإقليمية الفاعلة, فمثلا تجاهلت الحديث عن حل الدولتين والزخم الدولى نحو إقامة دولة فلسطينية, فقط قال ترامب أنه «يتفهم» تخوفات نتنياهو من إقامة دولة فلسطينية وهذا فى رأيى ليس تفهما بقدر ما هوانحياز للاحتلال, فلماذا لم يتفهم رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم أن الشعب الفلسطينى من حقه قيام دولته المستقلة على أرضه وفقا لقرارات الشرعية الدولية على حدود الرابع من يونيه 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؟
فى رأيى لو لم تفكك الخطة ما بها من ألغام وتطمئن الفلسطينيين قبل حماس فمع الأسف حال وافقت حماس ستكون مجرد خطة لاحتلال أجنبي»ناعم» تديره أطراف أجنبية وحال رفضت حماس ستكون احتلالاً إسرائيليًا «عنيفًا» لا يعرف المساومة، من دون أى مسار نحو السيادة الفلسطينية.
لا ننكر أن خطة ترامب تمثل اختراقا واضحا، لكنها تعانى مشاكل فى التصميم والتنفيذ، لكن ورغم كل شيء فإن تنفيذ هذه الخطة ــ لو تمت معالجة ما بها من ثغرات سيكون أفضل بكثير من الوضع القاتم والمرهق القائم حاليا.