منذ آلاف السنين والنيل هو شريان الحياة لمصر، وهو الذى صُنِعَت الحضارة على ضفافه وأعطى للأرض معناها وقدسيتها.. لكن فى السنوات الأخيرة، لم يعد الخطر الذى يهدد النهر مقتصرًا على الطبيعة أو المشروعات الكبرى فحسب، بل ظهر خطر أشد فتكًا: فيضان الشائعات.
> > >
على مدار عقود، تغاضت الإدارات المحلية والسلطات عن جريمة مستمرة اسمها التعدى على أراضى طرح النهر. منازل مبنية فى حرم مجرى النيل، وزراعات قائمة فى قلب ممرات المياه، وتشوينات عشوائية قتلت ديناميكية النهر وقدرته الطبيعية على استيعاب المياه. هذه الأفعال ليست مجرد مخالفات عابرة، بل جرائم تهدد الأمن المائى والبيئى لمصر، وتحول أى زيادة فى منسوب المياه إلى تهديد حقيقى للقرى والمدن. وزارة الرى لم تقف مكتوفة الأيدي، بل حذّرت مرارًا وأصدرت تعليمات صارمة بضرورة إخلاء الحرم النهرى من التعديات، لكن الواقع أن الاستجابة غالبًا ما تأتى متأخرة، بعد وقوع الكارثة.
> > >
الزيادة المفاجئة فى المياه لم تكن نتيجة فيضان استثنائي، بل لأسباب فنية واضحة. هناك ارتباك إثيوبى فى إدارة وتشغيل سد النهضة فى بداياته، وزيادة كميات الأمطار هذا العام، وغياب استعداد السودان للتعامل مع هذه المتغيرات، خاصة فى ظل الحرب المشتعلة هناك. بينما كانت مصر أكثر استعدادًا، إذ وضعت سيناريوهات مختلفة وعملت وزارة الرى على تعزيز الجاهزية لتصريف المياه بالطرق العلمية.
> > >
المفارقة أن أخطر ما واجه المصريين لم يكن ارتفاع منسوب المياه بحد ذاته، بل فيضان الأخبار الكاذبة. فقد انتشرت خلال الأسابيع الماضية على «فيسبوك» و»تيك توك» مقاطع مصورة تزعم غرق مساحات واسعة من الأراضى الزراعية على جانبى النهر فى الصعيد، بينما تبين لاحقًا أنها لقطات قديمة من فيضانات فى السودان. كما تداولت بعض الصفحات صورًا لمنازل تغمرها المياه على أنها من مصر، ليتضح أنها من دول آسيوية تعانى من سيول موسمية. الأدهى أن بعض القنوات المغمورة على «يوتيوب» صنعت مقاطع بعنوان «كارثة فيضان النيل» لجذب المشاهدات، رغم أن الحقيقة أن المنسوب طبيعى ولا يمثل تهديدًا. هذه الموجة من التضليل أوقعت المواطنين فى حالة هلع، وأربكت الرأى العام بلا داعٍ.
> > >
المشكلة أن بعض وسائل الإعلام التقليدى انزلقت خلف هذا التهويل، وبدلاً من أن تضع الحقائق فى نصابها، ساهمت فى تضخيم الموقف. البعض صوّر الأمر على أنه كارثة طبيعية، والبعض الآخر اتهم الحكومة بسوء الإدارة متجاهلًا أن أجهزة الدولة حذرت مسبقًا وأن الخلل الحقيقى هو فى التعديات البشرية. أما الأخطر فهو صمت الصحافة عن جوهر الأزمة: جرائم المواطنين أنفسهم فى الاعتداء على النهر. الكل يفضل مجاملة الجمهور بدلاً من مواجهته بالحقيقة المرة. وهنا يقع الإعلام فى جريمة نفاق العوام، فيحوّل الجانى إلى ضحية، ويترك الحقيقة مدفونة تحت سيل من «التريندات» والفيديوهات المفبركة.
> > >
إذا أردنا مواجهة الخطر الحقيقى فعلينا أن نتحلى بالشجاعة. التعدى على طرح النهر جريمة وليس «مشكلة صغيرة» الإعلام الذى يهادن العوام ويخشى خسارة شعبيته يرتكب خيانة مهنية ووطنية. على المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إصدار لائحة تُجرّم نشر الشائعات والأخبار الكاذبة عن الفيضانات، وعلى المواطن أن يعلم أن نشر أى فيديو مفبرك أو خبر كاذب يجعله شريكًا فى الجريمة وتحت طائلة القانون.
> > >
المياه قد تزيد وتنحسر، وقد تسبّب خسائر مادية يمكن تعويضها. لكن الشائعات حين تجتاح العقول فإنها تدمر الوعى الجمعى وتزرع الهلع وتفقد المواطن الثقة فى دولته ومؤسساته. ما حدث هذا العام ليس كارثة طبيعية ولا سوء إدارة حكومي، بل كارثة صناعة الكذب التى جعلت من الشائعة أسرع انتشارًا من النهر نفسه.
> > >
النيل باقٍ، والمياه ستظل تجرى فى مجراها، لكن أخطر ما يهددنا هو أن نستمر فى تزييف الوعي. لقد آن الأوان أن نواجه أنفسنا بالحقيقة: المواطن المعتدى على النهر مجرم، والإعلام المروّج للشائعات شريك فى الجريمة. فلتكن رسالتنا واضحة: فيضان الشائعات أخطر من فيضان المياه، وإذا لم نواجهه بصرامة فسيدمر مجتمعاتنا أسرع مما يفعل أى فيضان طبيعي.