مازال حديثى مستمراً حول الإستراتيجية الوطنية للتصنيع التى تنتهجها مصر. وأتناول اليوم أهمية الصناعات الصغيرة فى الريف، وهي قاطرة التنمية المحلية ومستقبل الاكتفاء الذاتي.
وتعدّ الصناعات الصغيرة والمتناهية الصغر فى الريف المصرى شريان حياة خفياً ورافداً أساسياً للتنمية الشاملة، تتجاوز أهميتها مجرد كونها مصدر رزق، لتصبح ركيزة حقيقية للأمن الاقتصادى والاجتماعي. ففى قلب القرى والنجوع، تتجسد هذه الصناعات فى صور متعددة، بدءاً من الحرف اليدوية التى توارثتها الأجيال، مروراً بالأنشطة المرتبطة بالمنتجات الزراعية، ووصولاً إلى المشاريع الريادية الحديثة التى تستغل الموارد المتاحة. إنها ليست مجرد ورش صغيرة، بل هى خلايا اقتصادية تعمل على امتصاص البطالة، خاصة بين الشباب والنساء، وتُعزّز الاكتفاء الذاتى للمجتمعات المحلية، وتقلل من الهجرة الداخلية إلى المدن المكتظة بحثاً عن فرص العمل. ويتميز الريف المصرى ببيئة خصبة لهذه الصناعات لسبب رئيسى هو التنوع الهائل فى الموارد المتاحة. فالصناعات الغذائية المرتبطة بالمنتجات الزراعية تحتل مكانة الصدارة، مثل تجفيف الفاكهة والخضروات، وتصنيع الألبان ومشتقاتها مثل الجبن والزبد والزبادى وتعبئة وتغليف العسل والبهارات المحلية. هذه الأنشطة تستفيد مباشرة من وفرة المحاصيل الزراعية وتضيف إليها قيمة اقتصادية بدلاً من بيعها كمواد خام بأسعار زهيدة. إلى جانب ذلك، تزدهر الصناعات القائمة على الموارد الطبيعية مثل منتجات النخيل مثل الخوص والسعف والحرف الفخارية فى صعيد مصر، والمنسوجات والملابس الجاهزة خاصة فى محافظات مثل دمياط والغربية، التى تعتمد على خبرات عائلية متراكمة. هذا التنوع يمنح هذه الصناعات قدرة استثنائية على التكيف مع التغيرات الاقتصادية، ويجعلها أقل عرضة للصدمات مقارنة بالصناعات الكبيرة التى تتطلب رءوس أموال ضخمة وبنية تحتية معقدة. وتواجه الصناعات الصغيرة فى الريف المصرى تحديات جوهرية تعيق نموها وتوسعها. ويبرز التمويل كأحد العقبات الرئيسية حيث يجد رواد الأعمال الريفيون صعوبة فى الحصول على قروض ميسرة من البنوك نظراً لضعف الضمانات أو نقص الخبرة فى إعداد دراسات الجدوي. كما تمثل التسويق تحدياً كبيراً، فجودة المنتج الريفى غالباً ما تكون ممتازة، لكن غياب قنوات التوزيع الفعالة والتعبئة والتغليف الاحترافية، يحد من وصوله إلى الأسواق الأوسع داخلياً وخارجياً. يضاف إلى ذلك، نقص التدريب المهنى المتخصص الذى يواكب التكنولوجيا الحديثة ومعايير الجودة العالمية، مما يجعل بعض المنتجات الريفية تفتقر إلى القدرة التنافسية.
فى المقابل، تكمن الفرصة فى التحول الرقمى واستخدام منصات التجارة الإلكترونية التى تتيح للمنتج الريفى تجاوز الحدود الجغرافية بتكلفة منخفضة نسبياً. كما أن هناك حاجة ملحة لدعم حكومى ومؤسسى عبر برامج توفير رأس المال الدوار، وإنشاء حاضنات أعمال متخصصة فى المناطق الريفية، وربط المصنعين الصغار بالأسواق الكبيرة والمشروعات القومية. يمكن لبرامج «حياة كريمة» والمبادرات البنكية لتشجيع المشروعات الصغيرة أن تلعب دوراً محورياً فى تذليل هذه العقبات، بتحويل الدعم المباشر إلى دعم منتج ومستدام.
ولا يمكن إغفال الأثر الاجتماعى العميق لهذه الصناعات. فغالباً ما تكون المرأة الريفية هى القوة الدافعة وراء هذه المشروعات، لا سيما فى الحرف اليدوية والصناعات الغذائية المنزلية. إن تمكين المرأة اقتصادياً من خلال هذه الصناعات يرفع مستوى معيشتها وأسرتها، ويُعزّز مكانتها الاجتماعية، ويُسهم بشكل مباشر فى تحسين مستويات التعليم والرعاية الصحية للأطفال. ومن المنظور الاقتصادى الأوسع، تعمل هذه الصناعات على خلق قيمة مضافة للمواد الخام الزراعية، وتُنشط حركة التجارة المحلية بين القرى والمدن، وتُسهم فى تقليل الفجوة الاقتصادية بين الريف والحضر، مما يدعم مفهوم التنمية المتوازنة إقليمياً. إن نجاح الصناعات الصغيرة فى الريف المصرى هو مفتاح لضمان استدامة التنمية الزراعية والصناعية فى البلاد. وتُشكل الصناعات الصغيرة فى الريف المصرى ثروة قومية غير مستغلة بالكامل، فهى تمثل العمود الفقرى للاقتصاد المحلى وواحة للابتكار القائم على التراث والاحتياج. ولتحقيق أقصى استفادة من هذه الإمكانات، يجب أن تتضافر جهود الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدنى لتوفير بيئة داعمة تشمل التمويل الميسر، والتدريب على أساليب الإنتاج والتسويق الحديثة، وتيسير النفاذ إلى الأسواق. إن الاستثمار فى هذه الصناعات هو استثمار فى مستقبل مصر الذى يقوم على اللامركزية، والاكتفاء الذاتي، والتمكين المجتمعي، وتحويل القرى من مجرد مناطق استهلاك إلى مراكز إنتاج تضخ الحياة فى شرايين الاقتصاد القومي.
وللحديث بقية