الأمم العظيمة لا تُعرف فى ساعات الرخاء، بل تُقاس فى لحظات المحنة والامتحان، حين يكون الصبر هو السلاح الوحيد، وحين يكون الأمل فى الغد أثمن من قوت اليوم. التاريخ يخبرنا أن الشعوب التى صبرت على الجوع والقهر والدمار، هى ذاتها التى صنعت النهضة بعد حين، وكتبت بعرقها ودمائها سطور العزة من جديد.
الصين مثال أول على أن الصبر مع العمل قادر على تحويل المستحيل إلى ممكن. شعب خرج من دوائر الفقر والمجاعات، حمل على كتفيه معاناة قرون، ثم سلك طريق الإصلاح بروح صبورة لا تعرف الملل، فكان أن تحولت بكين من حقول متعبة إلى مصانع كبري، ومن أمة مهمشة إلى ثانى اقتصاد عالمي. لم يكن الأمر هبة ولا معجزة، بل كان ثمرة لصبر طويل على الحرمان، وإيمان عميق بأن الغد لا يُولد إلا من رحم المعاناة.
روسيا فى زمن الحرب العالمية الثانية كانت تعيش فى حصار خانق، حتى ان رغيف الخبز كان يُوزع بالجرامات، وأطفالها ناموا على جوع ونساؤها بكت فى صمت، لكن لم يصرخ الشعب، بل شد الحزام وصبر. كان الصمود هو العنوان، حتى انقلبت موازين الحرب، وخرجت روسيا قوة عظمي. هناك، فى لينينغراد، تعلّم العالم أن الجوع قد يهزم الجسد لكنه لا يهزم الروح إذا تحلّت بالصبر.
واليابان، الجرح الأكبر فى جسد القرن العشرين، بلد تحوّل إلى رماد بعد القنابل النووية فى هيروشيما وناجازاكي. لكن اليابانى لم يبكِ طويلاً، بل صبر على الألم، ومسح دموعه، وبدأ فى البناء. فى عقدين فقط نهض من تحت الركام، وصار قوة صناعية عظمي. كانت رسالته للعالم أن الصبر ليس أن تجلس تنتظر الفرج، بل أن تتحمل الصعاب لتصنع بيدك فرجك.
وفيتنام، تلك الأرض الصغيرة التى التهمتها نيران الحرب لعقود، صبرت على قصف الطائرات الأميركية، وصبرت على الحرمان والموت، حتى انتصرت. لم يكن النصر عسكرياً فقط، بل كان نصراً لإرادة أمة آمنت أن الاحتلال يزول، وأن الصبر على الجوع والبرد أهون من أن تفقد حريتها وكرامتها.
ثم ألمانيا، التى خرجت من الحرب العالمية الثانية كجثة منهكة، مدنها أنقاض، اقتصادها ممزق، وشعبها فى ذهول. لكنها لم تستسلم، صبرت وعملت، حتى وُلد ما سُمى بالمعجزة الاقتصادية الألمانية. بالصبر على قلة الموارد وبالعمل الدؤوب، استعادت ألمانيا مكانتها، وتحولت من مهزومة إلى ركيزة أوروبا وقلبها الاقتصادى النابض.
أما رواندا، فقد شهدت فى التسعينيات واحدة من أبشع المجازر فى التاريخ، دماء سالت كالأنهار، ومجتمع تمزق بين أشلاء الفتنة العرقية. لكن شعب رواندا صبر على الجراح، قبل أن يمسحها ويعيد بناء بلاده. من بلد غارق فى الدماء، إلى نموذج إفريقى فى التنمية والوحدة، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا أن الروانديين فهموا أن الصبر على الماضى هو جسر لعبور المستقبل.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذه القاعدة. فى أعقاب هزيمة 1967، تلقى الشعب صدمة قاسية، الأرض محتلة والجيش منكسر. لكن المصريين لم يرفعوا الراية البيضاء، صبروا على مرارة الهزيمة، وتحملوا قسوة الحياة، وانخرطوا فى دعم جيشهم خلال حرب الاستنزاف. كان الصبر الشعبى هو العنوان، وكان التحمل هو الوقود الذى أعاد الثقة للجنود. ومن ذلك الصبر انطلقت ملحمة العبور فى أكتوبر 1973، التى أعادت الكرامة والعزة.
التاريخ إذن لا يرحم الضعفاء، لكنه يكافئ الصابرين. الصبر ليس ضعفاً كما يتوهم البعض، بل هو قوة هادئة، ووقود داخلى يحوّل الهزيمة إلى نصر والخراب إلى بناء. دروس الصين وروسيا واليابان وألمانيا وفيتنام ورواندا ومصر تقول لنا بوضوح: من يصبر يظفر، ومن يتحمل الأزمات يبنى المستقبل.
الخلاصة أن الأمم لا تنهض بالصرخات ولا بالشعارات، بل بالصبر على الشدائد، وبالعمل وسط اليأس، وبالإيمان أن الغد ملك لمن يحتمل اليوم. الدرس الأهم: الصبر ليس انتظاراً سلبياً، بل هو فعل إيجابي، هو أن تتحمل لتبني، أن تجوع لتنتصر، أن تنهزم لتعود أقوي. وهكذا تكتب الشعوب العظيمة تاريخها، بالصبر أولاً، ثم بالعمل، ثم بالنصر الذى يأتى حتمًا بعد طول احتمال.