لم يعد «المزاج العام» الذى طالما تحدث عنه الفلاسفة والمفكرون مرتبطًا بالشارع أو المقهى أو الصحيفة، بل أصبح اليوم فى قبضة منصات رقمية، تُدار من غرف مظلمة فى وادى السيليكون أو من مكاتب حكومية تبحث عن السيطرة على العقول. نحن أمام معركة صامتة، حيث يتحوّل المزاج العام إلى سلعة، يُصنع ويُعاد تشكيله وفقًا لأجندات سياسية واقتصادية، فى لحظة فارقة من عمر الإنسانية.
>>>
ما جرى فى نيبال مثال صارخ على ذلك. فقد اهتزّت البلاد سياسيًا فى السنوات الأخيرة ليس فقط من خلال صناديق الاقتراع أو التظاهرات فى الشارع، بل من خلال موجات موجهة من الأخبار الزائفة وحملات رقمية ضخمة صاغت وعى الناس وأثرت على اتجاهاتهم السياسية. منصات مثل فيسبوك وتيك توك ويوتيوب لم تكن مجرد وسائل للتسلية، بل تحولت إلى ساحات حاسمة لحسم معارك الهوية والسياسة. هناك، لم يعد الشارع التقليدى هو الفضاء الحاسم، بل «الشارع الافتراضي» الذى تحدثت عنه بالأمس ، حيث يمكن لمن يملك المال والتكنولوجيا أن يوجّه المزاج العام ويقوده.
>>>
وفى إسرائيل، يدرك بنيامين نتنياهو خطورة هذا السلاح أكثر من غيره. لذلك جلس مع عدد من المؤثرين الأمريكيين مؤخرًا، ليتحدث معهم عن «سلاح السوشيال ميديا» وكيف يمكن استخدامه لتغيير الروايات وتثبيت خطاب الدولة العبرية فى وعى الجمهور الغربي. لم يتوقف الأمر عند الكلام، بل مضى إلى أبعد من ذلك بتوقيع عقود بملايين الدولارات مع شركات تكنولوجية كبرى مثل يوتيوب وجوجل، لتبنى حملات دعائية تنفى فكرة التجويع فى غزة وتروّج لرواية مغايرة للواقع. نحن هنا أمام نموذج حيّ لاستبدال الجيوش بالدعاية الرقمية، حيث المعركة لم تعد بالسلاح التقليدى بل بالصور والمقاطع القصيرة والهاشتاجات التى تُطلق بانتظام لإغراق الفضاء الإلكتروني.
>>>
الخطر الحقيقى أن هذه الحملات لا تقتصر على الصراعات الإقليمية أو المعارك السياسية الكبري، بل تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية. المزاج العام فى مصر أو غيرها من الدول لم يعد نابعًا من تفاعل طبيعى بين المواطنين والدولة، بل صار عرضة لضغط خوارزميات ذكية تعرف متى تثير الغضب، ومتى تُشعل الحماسة، ومتى تُغرق الناس فى موجات من السخرية أو التشكيك. وهكذا، تتحول التكنولوجيا إلى «مُهندس خفي» يعيد صياغة الوعى الجمعي، ويضع المزاج العام بين أنياب لا ترحم.
>>>
إن أخطر ما فى هذه المعركة أن ضحاياها لا يشعرون أنهم ضحايا. المواطن يتصور أنه يختار بحرية، يشارك رأيه، يتابع ما يحب، لكنه فى الحقيقة يُقاد بخيوط غير مرئية، تُصنع فى غرف بعيدة. وإذا كانت نيبال قد عاشت هذا الاختبار بحدة، وإذا كان نتنياهو يسعى لاستغلاله فى صراعه مع الفلسطينيين والعالم، فإننا جميعًا معرّضون للسقوط فى الفخ نفسه إن لم ندرك أن المزاج العام لم يعد ملكًا لنا، بل أصبح ورقة فى أيدى من يملك التكنولوجيا.
>>>
إنها معركة البقاء للأوطان والعقول، والسؤال الذى يفرض نفسه: هل نملك نحن أدوات مضادة نحمى بها وعى شعوبنا من هذا الغزو الخفي، أم سنظل نُقاد فى طرق مرسومة سلفًا، لا نملك فيها سوى الوهم بأننا نختار؟









