«كل عشر سنوات نكتشف عبقرية من عبقريات الرئيس الراحل أنور السادات» عبارة شهيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى ذكرها فى إحدى المناسبات الوطنية وكرر معناها فى العديد من اللقاءات والخطابات، هذه العبارة تؤكد إلى أى مدى إيمان مصر بالسلام وإلى أى مدى استبق الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ كل من حوله من رؤساء دول ومسئولين وقادة رأى وباحثين وأساتذة جامعات، فقد كان قرار السادات بالذهاب لإسرائيل عام 1977 لأجل تحقيق السلام، مفاجئاً بكل المقاييس ولا يقل فى أثره عن قراره العظيم بشن حرب 6 أكتوبر 1973، ومثلما علت آثار الصدمة وجوه قادة إسرائيل وقت العبور، ظهرت علامات الدهشة بنفس الدرجة على وجوه من يديرون الأمور فى الكيان الصهيونى وكل قادة دول العالم العرب والأجانب، كما طالت علامات الدهشة وجوه المصريين، وخرجت بعض الأصوات الرافضة للزيارة باعتبار إسرائيل عدواً «لدوداً» أو بسبب الخوف على حياة السادات نفسه وأنه قد يتعرض للقتل هناك وربما قبل وصوله تل أبيب.
>>>
هذه المشاعر المتباينة لم تمنع الرئيس السادات من السفر لإسرائيل والمطالبة بوضع حد للحروب والصراع العربى الإسرائيلى، كان السادات يرى أن نصر أكتوبر 1973 أعاد للعسكرية المصرية هيبتها بعد مؤامرة 1967، وأن القوات المسلحة المصرية نجحت من خلاله فى تغيير مفاهيم الحرب والمواجهة بعبور أكبر مانع مائى وتحطيم خط بارليف الحصين، وأنها بذلك سجلت مدرسة جديدة فى إدارة العمليات الحربية انكبت على دراستها الأكاديميات العسكرية والمعاهد الإستراتيجية فى العالم، كان السادات يرى أيضاً أن أى عمل عسكرى لابد وأن يعقبه تحقيق هدف سياسى، وأن نصر أكتوبر 73 أسفر عن تحرير قطاع كبير من سيناء، وأنه لابد من جهود دبلوماسية لاستعادة ما تبقى من أراض محتلة فى سيناء «وهو الهدف النهائى من الحرب»، فضلاً عن أن الرئيس السادات كان يريد أن تكون حرب أكتوبر آخر الحروب، وأن رجال القوات المسلحة الذين بذلوا الغالى والنفيس لأجل استعادة سيناء المحتلة، مطالبون بعد حرب التحرير بالحفاظ على كفاءة وجسارة الجيش المصرى وتطويره، ومطالبون كذلك بالمشاركة فى معركة البناء والتعمير ووضع مصر فى مسارها الصحيح.
>>>
ذهب الرئيس السادات إلى الكنيست الإسرائيلى وجاء خطابه الذى ألقاه هناك، مليئاً بمعانى الشجاعة والافتخار لكل مواطن مصرى وعربى ممن تفاجئوا بما ذكره السادات للإسرائيليين فى بيتهم وفى عقر دارهم، لقد تحدث الرئيس عن رؤيته للسلام الذى جاء من أجله وهو سلام الشجعان الذى يسعى فى الأساس إلى تجنب العرب والإسرائيليين ويلات الحروب ومن أجل تحقيق مستقبل آمن لكل الشعوب، ومن أجل تطور الإنسان وإسعاده وإعطائه حقّه فى الحياة الكريمة، الرئيس السادات قال أيضاً: لقد جئت إليكم اليوم على قَدَمَيْن ثابتَتَيْن، لكى نبنى حياة جديدة، ولكى نُقِيم السلام. وكلنا على هذه الأرض، أرض الله، كلنا (مسلمون ومسيحيون ويهود) كلنا نعبد الله، ولا نشرك به أحداً. وتعاليم الله ووصاياه، هى حب وصدق وطهارة وسلام.
>>>
لقد كان لخطاب السادات فى الكنيست الإسرائيلى واقعه الكبير وأثره الواضح فى بدء التفاوض ثم توقيع معاهدة السلام عام 1979، غير أنه لم يكن وحده سبب توقيع المعاهدة فقد أدرك قادة إسرائيل أن السلام مع مصر يحقق أمن الكيان الصهيونى بدرجة كبيرة وهو مطلب غالى ونفيس خاصة بعدما أثبتت حرب اكتوبر 73 أوهام جيش إسرائيل الذى لا يقهر والذراع الطولية لإسرائيل فى ظل ما أبداه الجيش المصرى من قدرة وكفاءة أذهلت العالم، لذا ومن منطلق هذا الإدراك الإسرائيلى نجحت معاهدة السلام بين القاهرة وتل أبيب فى تحقيق السلام بين الجانبين على مدار أكثر من أربعة عقود، وظلت المعاهدة صامدة أمام أى عواصف إسرائيلية فى المنطقة، ولكن ومنذ بداية العدوان الاسرائيلى على قطاع غزة فى أكتوبر 2023 بدأت إسرائيل فى ارتكاب سلسلة من الانتهاكات المخالفة لبنود المعاهدة والتى بدروها تهدد سيناء والأمن القومى المصرى والسلام القائم بين البلدين والمنطقة بوجه عام.
>>>
وحقيقة فإن القراءة السريعة لنجاح مصر فى تعاملها وتعاطيها مع أزمة غزة، تتطلب استعادة ما بدأنا به وإعجاب الرئيس السيسى بعبقرية السادات صاحب قرارى الحرب والسلام، لأنه بدون قرار حرب أكتوبر 73 لم نكن لنحرر أرضنا المحتلة فى سيناء، ولولا قرار السلام لكنا فى حرب قائمة حتى الآن، وفى ظل هذه الخبرات المتراكمة والدروس المستفادة تبدو عظمة القيادة السياسية المصرية التى عملت على تقويض الأطماع الإسرائيلية المتكررة فى المنطقة، بالجهود الدبلوماسية وبالرسائل المتواصلة بأن أمن إسرائيل مرهون بالسلام وليس بالحروب والقتل والدمار، وقد كان لهذه الجهود وهذه الرسائل أثر كبير فى إفشال مخطط إسرائيل بتهجير سكان غزة وفى دفع عدد من الدول الأوروبية بالاعتراف بحل الدولتين وحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة، فى خطوات متتالية تؤكد أن مخزون مصر من تجارب الحرب والسلام يمثل ركناً أصيلاً فى تحقيق السلام والأمن والاستقرار فى المنطقة والعالم…… وللحديث بقية.