لم أر وجه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل منتشياً ومنشرح الأسارير منذ شهور، مثلما رأيته فى المؤتمر الصحفى المشترك مع الرئيس الأمريكى ترامب، واللذان عقداه عقب اجتماعهما معا فى البيت الأبيض لبحث وإعلان «خطة ترامب للسلام فى غزة».
شهور عديدة مضت تطالعنا الفضائيات بصفة شبه يومية بوجه جامد مشدود الأسارير لنتنياهو يعكس مزيجا من الشعور الداخلى بالقلق والغضب والتوتر، سواء فى اجتماعات مجلس وزرائه المصغر أو المكبر أو فى مواجهة المظاهرات الغاضبة لأسر الرهائن المحتجزين، أو فى قاعة المحكمة الإسرائيلية التى تحاكمه بتهم داخلية مختلفة.
كان يبدو على ملامح نتنياهو هذه المرة شعور دافق بالانتصار.. لقد نجح ـ أخيراً ـ فى إلقاء حملة الثقيل على الرئيس الأمريكي، الذى بدوره تباحث مع قادة عدد من الدول العربية والإسلامية الذين اجتمع بهم خلال حضورهم دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم ألقى بالحمل فى النهاية فى مرمى حركة حماس.
والحمل الثقيل، بل الكابوس الذى كان يكدر على نتنياهو أيامه ولياليه، هو قرب حلول الذكرى الثانية لعملية «طوفان الأقصي» فى السابع من أكتوبر.. كيف سيواجه شعب إسرائيل وأسر الرهائن والعالم، وهو لم ينجح خلال عامين كاملين فى تحقيق ولو هدفاً واحداً من الأهداف المعلنة منه للحرب فى غزة؟!
لم يستطع الوصول للرهائن.. لم يستطع هزيمة حماس فضلا عن القضاء عليها.. بل لم ينجح حتى فى حماية الداخل الإسرائيلي، أرضا وجواً ولأول مرة فى تاريخ إسرائيل ـ من عمليات المقاومة الفلسطينية المحدودة وصواريخ ومسيرات الحوثيين فى اليمن.
نتنياهو أعلنها صريحة فى غمار فرحته بخطة ترامب: لقد أرادوا ـ يقصد الفلسطينيين ومن يؤيدهم ـ أن يقلبوا الطاولة علينا بالاعترافات العالمية بما يسمونه الدولة الفلسطينية، لكننا نجحنا فى قلب الطاولة عليهم.
لقد علق مسئولية تحقيق هذه الأهداف فى رقبة ترامب، الذى ضمن له ذلك بمجرد تنفيذ البنود الستة الأولى من خطته للسلام فى غزة، فى حال موافقته ـ أى نتنياهو ـ وموافقة حماس على الخطة ذات العشرين بندا.
وظهر ترامب يوم الاثنين الماضى ليبشر العالم بـ «فرصة حقيقية لانجاز عظيم من الشرق الأوسط» على غرار طريقته المجربة من قبل بقدرته على إنهاء الحرب فى أوكرانيا خلال أربع وعشرين ساعة مضيفا أن الجميع ـ كما قال ـ على أهبة الاستعداد لحدث استثنائى لأول مرة على الاطلاق، وسننجح فى هذا الأمر».
ثمة ملاحظات عديدة أسجلها ـ كاجتهاد شخصى قابل للخطأ والصواب، بعد قراءتى للنص الكامل لبنود الخطة.. وتبدأ هذه الملاحظات بطريقة إعداد الخطة.
حيث تم إعدادها بكافة تفاصيلها بين أمريكا وإسرائيل وحدهما، باعتراف وزير الخارجية الأمريكى نفسه، الذى قال إن خبراء إسرائيليين شاركوا نظراءهم الأمريكيين فى صياغة وتعديل الخطة، وذلك قبل أن يتم عرضها على القادة العرب المشاركين فى اجتماع ترامب لإبداء الرأى وإدخال ما يرونه من تعديلات، وكل ذلك قبل قمة ترامب ونتنياهو.
لم يكن هناك بين القادة العرب ممثل للشعب الفلسطينى بالطبع، بعد أن منع ترامب الرئيس الفلسطينى محمود عباس من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أصلا.. أى أن الصوت الفلسطينى المباشر غاب تماما عن المشهد، فى خطة تمس حقه الشرعى فى تقرير مصيره بنفسه وليس بوكالة أحد عنه.
توقيت إعلان الخطة جاء مقصوداً مع احتفال المجتمع الدولى كله من خلال الأمم المتحدة بموجة الاعتراف العالمى متعدد الآطراف بالدولة الفلسطينية،ومن خلال دول مؤثرة فى المشهد الدولى ومن معظم قارات العالم، بهدف سرقة هذا الانجاز العالمى الكبير، وإطفاء فرحة العالم به، وتحويل الانظار عنه إلى شخص الرئيس ترامب وخطته.
ظهر واضحا أن ترامب تعمد عرض خطته على القادة العرب قبل تقديمها إلى حماس، كعنصر ضغط على الحركة لإظهارها فى صورة من يواجه «العزلة» حتى من الأشقاء، وبالتالى لا ظهير لديها ولا خيار، فإما أن تقبل، أو يطلق يد نتنياهو فى استكمال عمليته العسكرية للقضاء عليها وانتزاع رهائنه بالقوة.. فالخطة ـ كما قيل ـ ليست للتفاوض، بل للقبول أو الرفض.
فإذا انتقلنا إلى صلب الخطة، سنجد أول بند فيها ينص على الآتي: «ستكون غزة منطقة خالية من التطرف والإرهاب ولا تشكل تهديداً لجيرانها».
يعني.. أول القصيدة كفر.. كما يقولون أو بالمثل الدارج عندنا: الجواب باين من عنوانه.
من.. أو ما الذى يشكل تطرفا وإرهابا وتهديداً للجيران.. الاحتلال الإسرائيلى وجرائمه المسجلة دولياً.. أم فصائل الشعب الفلسطينى التى ترفض هذا الاحتلال وتقاومه من أجل تحرير أرضها؟!
ثم نفاجأ بحشر اسم مصر إلى جانب إسرائيل فى البند السادس عشر الذى يتحدث عن الإجراءات التى ستتم فى غزة ليقول إنها تهدف «لضمان أن تكون غزة آمنة، ولم تعد تشكل تهديداً لإسرائيل أو مصر أو مواطنيها عمليا».. وواضح هنا التعمد الخبيث لوضع مصر فى سلة واحدة مع إسرائيل لتمرير تطهير غزة، ليس من حماس بل بعد ذلك وقبله ـ كما يجرى الآن ـ من الشعب الفلسطيني.
الأنكى من ذلك، إن إدخال المساعدات إلى غزة، والذى يضعه العالم كله كبند أول وضرورة قصوى فور وقف اطلاق النار، لا يأتى فى خطة ترامب إلا فى البندين السابع والثامن بعد استرداد إسرائيل للرهائن والتخلص من حماس وما يمكن أن يستغرقه ذلك من وقت.
ويعيد سيناريو التخلص من حماس، كما هو مدون بالخطة، إلى الأذهان سيناريوهات التواصل مختطفى الطائرات فى سبعينيات القرن الماضي.. فالبند السادس ينص على أنه «بمجرد عودة جميع الرهائن فإن أعضاء حماس الذين يلتزمون التعايش سلميا ويسلمون أسلحتهم سيستفيدون من عفو عام.. ومن يرغبون فى مغادرة غزة منهم سيمنحون حق المرور الآمن إلى بلدان المقصد»!!
لا نهاية للملاحظات.. فلا ذكر فى الخطة للضفة الغربية ولو بكلمة واحدة، ولا ذكر لدور للأمم المتحدة فى أى مرحلة ولا ضمانات ضد نكوص إسرائيل كعادتها عن الاستمرار فى الالتزام بتعهداتنا بأى ذريعة.. ولا إشارة لإقامة الدولة الفلسطينية إلا فى البند قبل الأخير.. وكجزء افتراضي، حيث ينص على أنه «مع تقدم إعادة إعمار غزة» وعندما يتم تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بأمانة «قد» تتهيأ الظروف أخيراً لفتح مسار ذى مصادقية نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية، وهو ما نعترف به كتطلع للشعب الفلسطيني».