في شوارع مصر وحواريها، اعتاد المواطنون سماع أصوات الميكروفونات التي تعلو من سيارات تجوب الأحياء لجمع الزيوت المستعملة من البيوت مقابل بضعة جنيهات، لا يتجاوز سعر الكيلو فيها 35 جنيهًا. كانت هذه الكميات تتسرب إلى مصانع “بئر السلم” حيث يُعاد تكريرها وبيعها كزيوت طعام مغشوشة تهدد صحة الملايين. وعلى جانب آخر، كان التخلص العشوائي من الزيت في الصرف الصحي كارثة بيئية صامتة، إذ يلوث لتر واحد منه أكثر من ألف لتر مكعب من المياه، ما يُرهق الدولة بتكاليف سنوية باهظة لمعالجة آثاره وحماية مواردها المائية.
لكن هذا المشهد بدأ يتغير مؤخرًا مع تحرك وزارة البيئة لوضع حد لهذه الفوضى، عبر إطلاق مبادرة قومية لجمع الزيت المستعمل من البيوت والمطاعم والمصانع الغذائية، وتحويله إلى وقود حيوي “بيوديزل” يُستخدم في الطائرات، في إطار تبني مفهوم الاقتصاد الدوار الذي يحوّل النفايات إلى موارد. لم تقتصر المبادرة على فكرة الجمع، بل دعمتها بقرارات وتشريعات جديدة لتنظيم تداول الزيوت المستعملة وإخضاعها لرقابة صارمة تحول دون تسربها إلى الأسواق غير الرسمية.

تنظيم رسمي وإجراءات حاسمة لإغلاق الباب على التلاعب
تمثلت صحوة الدولة في إصدار جهاز تنظيم إدارة المخلفات بوزارة البيئة قرارًا بترخيص أنشطة تداول زيوت الطعام المستعملة. يفرض القرار إجراءات واضحة لإصدار التصاريح تشمل الجمع، والنقل، والتخزين، والتصدير. كما ألزمت المنظومة الشركات بالتسجيل الإلكتروني على موقع الجهاز وتخصيص سجلات دقيقة لتتبع الكميات، مع اشتراط تسليمها حصريًا إلى مصانع مرخصة لإعادة التدوير، في خطوة تهدف لإغلاق الباب أمام مصانع “بئر السلم”. وتم وضع دليل إرشادي شامل ينظم عمل الشركات من لحظة جمع الزيت وحتى وصوله للمصانع، بما يضمن الشفافية ويمنع التداخل بين الشركات العاملة.
أكد ياسر عبد الله، الرئيس التنفيذي لجهاز تنظيم إدارة المخلفات، أن التراخيص تُمنح فقط للشركات التي تمتلك الإمكانيات الكافية لعمليات الجمع والتخزين والنقل الآمن، وأنه سيتم تخصيص مناطق عمل محددة لكل شركة بالتنسيق مع المحليات. وأضاف أن السيارات المخصصة للجمع ستحمل العلامة التجارية للشركة، وسيكون العاملون بزِيٍّ مميز وبطاقات تعريف رسمية، مع إطلاق حملات توعية لتشجيع المواطنين على التعاون مع الشركات المعتمدة مقابل حوافز في صورة منتجات آمنة مثل المنظفات والزيوت الجديدة.
فرصة استراتيجية: وقود الطائرات المستدام (SAF)
يأتي هذا التحرك الرسمي في ظل توجه عالمي نحو خفض الانبعاثات الكربونية. تشير أحدث التقارير إلى أن حجم سوق الزيوت المستعملة عالميًا بلغ 7.43 مليار دولار في 2025، مع توقعات بتضاعفه ليصل إلى 14 مليار دولار بحلول 2032. كما أظهرت الدراسات أن وقود الطائرات المستدام (SAF) المستخرج من الزيوت المستعملة قادر على خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 63% مقارنة بالوقود التقليدي، ما يجعله خيارًا استراتيجيًا لمستقبل صناعة الطيران.
وفي مصر، تشير تقديرات وزارة البيئة إلى إنتاج أكثر من 500 ألف طن من الزيوت المستعملة سنويًا، يمكن بعد معالجتها أن تتحول إلى 400 ألف طن وقود حيوي، أي ما يعادل حوالي 45% من استهلاك مصر من وقود الطائرات. وقد ترجمت الدولة هذا التوجه إلى خطوات فعلية من خلال إطلاق مشروع رائد تحت اسم ESAF باستثمارات تفوق 530 مليون دولار، يستهدف إنتاج 120 ألف طن سنويًا من الوقود الحيوي للطائرات، مع توقعات بخفض الانبعاثات بما يقرب من 400 ألف طن سنويًا، مما يعزز مكانة مصر كـشريك أساسي في صناعة الوقود المستدام عالميًا.

رؤى أكاديمية: الجدوى البيئية والتقنية
أكدت الدكتورة شيماء سرور، خبيرة الهندسة الميكانيكية بجامعة بنها، أن مستقبل الطاقة في مصر يحمل فرصًا واعدة إذا تم استغلال زيوت الطهي المستعملة وتحويلها إلى “ديزل حيوي” صديق للبيئة. وأوضحت أن العالم يتجه للبحث عن بدائل أنظف وأوفر من الوقود الأحفوري، وأن دراسة أجرتها في كلية الهندسة أثبتت وجود بديل عملي ومستدام في متناول اليد، ممثل في زيوت الطهي التي يمكن تحويلها إلى مصدر طاقة نظيف وآمن.
وأضافت الدكتورة سرور أن الاختبارات أوضحت أن المزائج منخفضة المحتوى من الديزل الحيوي، مثل B5 و B20، قدمت نتائج قوية جدًا. فمزيج B5 كان الأكثر توازنًا بين قوة الأداء وانخفاض الانبعاثات، مما يجعله الخيار الأمثل للسوق المصرية حاليًا. كما أثبت مزيج B20 أنه يجمع بين الجدوى البيئية والكفاءة التقنية.
وأشارت إلى أن استخدام الديزل الحيوي ساعد على تحسين كفاءة الاحتراق وأداء المحرك، مع تقليل انبعاثات أول أكسيد الكربون والهيدروكربونات والجسيمات الدقيقة بشكل ملحوظ مقارنة بوقود الديزل التقليدي. لكنها لفتت الانتباه إلى ارتفاع نسبي في انبعاثات أكاسيد النيتروجين، مشيرة إلى أن هذا يتطلب جهودًا بحثية إضافية لمعالجته. اقتصاديًا وبيئيًا، أوضحت أن طبيعة الديزل الحيوي المتجددة وارتفاع نقطة وميضه (مما يعزز الأمان أثناء التخزين والتداول) يجعله خيارًا أكثر استدامة. والأهم هو أنه يساعد في حل مشكلتين كبيرتين: التخلص من نفايات تلوث البيئة، وفي الوقت نفسه تعزيز الأمن الطاقي.
واختتمت الدكتورة سرور بتأكيد أن دعم الدولة لجمع وتحويل زيوت الطهي المستعملة إلى وقود حيوي، سيحقق نقلة استراتيجية تقلل الاعتماد على البترول، وتدعم الاقتصاد الدائري، وتحافظ على البيئة.

ضرورة التوعية والاستغلال الآمن
من جانبه، أوضح الدكتور محمد توفيق، أستاذ الجغرافيا وعميد كلية الآداب بجامعة سوهاج، أن لزيوت الطعام آثارًا ضارة على البيئة سواء بالنسبة للمياه أو التربة أو الأغلفة الحيوية الأخرى. وحتى يتسنى الحفاظ على هذه النظم، يجب التخلص من هذه الزيوت بطرق سليمة منها: إعادة تدويرها لصناعة وقود حيوي، أو صابون، أو مواد كيميائية أخرى.
وطالب أستاذ الجغرافيا بشن حملات إعلامية بجميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتعريف الناس بخطورة إعادة استخدام الزيت في الطعام، وتشجيعهم على تسليمه للجهات الرسمية بدل التخلص منه في الصرف. مؤكدًا أن الحل يكمن في استغلاله كمورد صناعي آمن يفيد الاقتصاد القومي ويحمي البيئة بطريقة مستدامة، مما يسمح بتقليل التلوث المائي والبيئي، والحفاظ على صحة المواطنين، وخلق فرص عمل جديدة في مجال إعادة التدوير والصناعات المرتبطة.