بقلم : حلمى النمنم
فى الفترة الاخيرة نشرت بعض المواقع الاخبارية تسجيلًا صوتيًا للرئيس جمال عبدالناصر مع احد الرؤساء العرب، وقد أطلقت عليه «تسريبا»، المحادثة لاتقدم للدارسين والمتخصصين جديدًا ولا تكشف مجهولًا عن الرئيس عبدالناصر، لكنها كانت مفاجئة لقطاعات واسعة من عموم الناس، فضلا عن «المثقفين والسياسيين بالسماع»، أولئك الذين يقتصر تحصيلهم المعرفى والمعلوماتى على جلسات المقاهى ونظرية «قالوا له «،هذه «التسريبات «جعلت بعضهم يعيدون التفكير فى بعض المواقف.
الأمر المؤكد ان التسجيل الصوتى كشف للكثيرين ان هناك أخطاء عديدة صدقوها وعاشوا عليها عقودًا ممتدة.
الأسبوع الماضى نشرت صحيفة إسرائيلية ملفًا كاملا عن أشرف مروان، تؤكد فيه أنه لم يكن عميلا لهم ولا «الملاك الذى تصوروه»، كان طوال الوقت وطنيًا مصريا، نجح فى خداعهم، نجح كذلك فى تجنيد رئيس الموساد لصالح مصر، دون أن يدرك الأخير ذلك، بل أن اشرف ترك رئيس الموساد يتصور أنه نجح فى تجنيد زوج ابنة الزعيم المصرى الكبير.
وقبل ثلاثة ايام عبر د.محمد أبو الغار عن دهشته من وثيقة بريطانية نشرت فى كتاب ظهر بالإنجليزية مؤخرا بعنوان « النازيون على ضفاف النيل»،
تناول الكاتب قيام ضباط نازيون بتدريب عناصر من جماعة الاخوان على اعمال القتل والتدمير، ونجح النازيون فى إدخالهم الى المعسكرات الانجليزية فى منطقة القناة، الوثيقة البريطانية تتحدث عن ان السلطات البريطانية تأكدت من ان هؤلاء لن يقوموا باى عمل ضدهم (رغبتهم فى طرد الانجليز من مصر أقل من رغبتهم فى طرد الحكومة المصرية)، كى تحل محلها، د.أبو الغار اصيب بالدهشة الشديدة لانه هو وابناء جيله صدقوا كل ما حكته الجماعة عن بطولات قاموا بها ضد قوات الاحتلال البريطانى فى حين انهم لم يقوموا باى شيء.
هذه فقط نماذج من عشرات، لن أقول مئات، عن حكايات ومواقف مغلوطة، فى حالات كثيرة تكون كاذبة، ولا يستبعد ان يكون الكذب متعمدًا.
يترتب على هذا الكذب اتخاذ مواقف محددة من شخصيات ورموز تاريخية، قد تدين البعض وتهز الثقة بهم وقد تمنح بعض الأوغاد مجدًا لا يستحقونه وتجعل منهم أبطالًا، حتى وان افتقدوا كل معايير البطولة والمروءة.
هذه المشاهد كلها،تطرح علينا العديد من التساؤلات حول التاريخ..التاريخ الوطنى والاجتماعى والسياسي..من يكتبه وكيف ولماذا يكتب ولمن يكتب؟
هل التاريخ يكتب مرة واحدة فقط، أم تعاد كتابته مع اعادة قراءته، خاصة اذا تكشفت معلومات جديدة وأعلنت وقائع كانت خفية أو مغيبة والكشف عن وثائق كانت محجوبة، فضلا عن تطور الوعى الثقافى والانسانى للجمهور من مرحلة الى أخري؟
>>>
الشائع بيننا ان التاريخ يكتبه المنتصر، نسبت هذه المقولة الى الزعيم البريطانى ونستون تشرشل،لحظة شعوره بنشوة الانتصار فى الحرب العالمية الثانية، غير ان هناك من سبقه إليها، سياسى يمينى فرنسى تعاون مع الاحتلال النازى لبلاده، قال هذه العبارة لحظة تنفيذ حكم الاعدام بحقه،لسان حاله انه لو انتصر هتلر لتغيرت الصورة وما حوكم أصلًا، قالها كذلك قائد القوات الجوية الالمانية، أمام محكمة نورمبرج، وهكذا صدرت المقولة عن أطراف شاركوا بفاعلية فى الحرب،اختلف موقع كل منهم ودوره،لكن المعنى لديهم هو نفسه .
غير ان هناك من نسبها الى المؤرخ- الفيلسوف الالمانى «والتر بنيامين «، قبل وفاته فى شهر سبتمبر سنة 1940.أى نفس الحقبة تقريبا.
وبغض النظر عن هوية القائل وموقعه فان حروبا عديدة قد تنتهى ويدعى كل طرف انه حقق انتصارًا، فلا يكون هناك منهزم، فى سنة 2006، وقعت حرب ضارية بين حزب الله وإسرائيل فى جنوب لبنان، ولما انتهت الحرب أعلن أمين عام حزب الله،الراحل حسن نصرالله أنه حقق»نصرًا الهيا «،واحتفل الحزب بالنصر وأقام الأفراح.
فى الوقت نفسه زعمت الحكومة الاسرائيلية انها حققت كافة اهدافها من الحرب وانها فرضت الامن لسكانها فى المناطق والمستوطنات المتاخمة للحدود اللبنانية.
وهكذا معارك عديدة تدور حول ألعالم ولا يعترف اى طرف بالهزيمة، ربما يكون الرئيس جمال عبدالناصر حالة نادرة فى هذا العصر،حين اعترف مساء يوم الثامن من يونيو سنة 1967،أننا منينا بنكسة وتقدم باستقالته، دعك الان من تنطع البعض انه اطلق عليها نكسة، يصلح هذا الاعتراض مع تلاميذ المدرسة الأولية فى «حصة التعبير»،المفاجأة انه فى نفس الحرب،لم تقر سوريا بالهزيمة، رئيس الوزراء السورى وقتها ان الجولان سقطت، لكن العدو لم يحقق هدفه،كان هدف العدو إسقاط الثوره السورية، لكنها لم تسقط.
فى هكذا حروب ومواقف،يقدم كل طرف حكايته أو سرديته،فلا يكون ثمة مجال لمنتصر ومنهزم، كل يرصد ما لديه، الرواية المتماسكة يمكن ان تسود وتصبح هى الرواية المعتمدة.
فى الحرب العالمية الثانية، لعب صمود روسيا لحصار الجيش النازي،حتى فشل الحصار وتعطلت خطة هتلر فى القفز الخاطف من روسيا الى ايران عبر منطقة القوقاز، فيصل سريعا الى قناة السويس ويهزم دول الحلفاء، وفشل فشلًا ذريعا بفضل الصمود الروسى بقيادة ستالين، لكن فى رواية أو كتابة المنتصر لتاريخ الحرب وفق نظرية تشرشل،تم تحجيم الدور الروسى ولم توضع روسيا فى قائمة المنتصرين.
وهناك حالات عديدة فى التاريخ، لم يهتم المنتصر بكتابة التاريخ، فسادت رواية المهزوم،وصارت هى المعتمدة، هناك نماذج عديدة فى التاريخ الانسانى وفى التاريخ العربى أيضا.حرب اسبرطة وأثينا نموذجا، كانت اسبرطة منتصرة، لكن سردية أثينا هى السائدة الى اليوم.
فى تاريخنا المعاصر حققنا كمصريين نصرًا ساحقًا يوم السادس من اكتوبر، أمكن لقواتنا يوم السادس من اكتوبر تحقيق عدد من المعجزات بالفعل، عبور القناة بعد كتم فتحات النابالم التى اقامها العدو تحت سطح الماء،بحيث تتحول المياه فى لحظة الى بركان من النيران وأمكن التغلب على كل ذلك، ثم ازالة الساتر الترابى الضخم بخراطيم المياه، ثم اقتحام النقاط الحصينة فى خط بارليف، كل ذلك فى ست ساعات وبدون قنبلة نووية، كما قرر كبار خبراء الحرب فى العالم، ومع ذلك وجدنا من لا يرى ذلك انتصارًا كافيًا، صحيح ان السردية المصرية قائمة ومعترف بها عالميًا، حتى الخصم لم يستطع ان ينكرها، لكن هناك من لا يرحب بها لاسباب ايديولوجية أو شخصية، الذين لم تعجبهم سياسات الرئيس السادات لم يميزوا الانجاز الضخم الذى تحقق،بطله الجيش والشعب والقائد، عن مشاعرهم فى موقف معين تجاه السادات، تلك إحدى اشكاليات تناول التاريخ وتقديمه.
.>>>
ويحلو لبعض المتحذلقين ان يرددوا مقولة ان التاريخ الرسمى «مزور»أو «مزيف»،سوف نسمع ذلك من بعض الروائيين والنقاد، وصل الأمر ان البطل فى رواية زميلنا روبير الفارس،الأخيرة يردد أن المؤرخين يزَّيفون التاريخ لصالح الحكام بينما يزوره الروائى لصالح الشعب، وهكذا لايكون هناك تاريخ يستند إليه ويعتمد عليه، الحق انه لا تزوير ولاتزييف، بل كل يقدم مالديه من وقائع وأحداث، ربما فيما بعد تكتشف وثائق جديدة أو واقعة لم يكن يعلم بها الجميع وهكذا، ربما ذلك هو أحد اسباب تعدد الكتابات التاريخية بين مرحلة وأخري، وهذا لا يمنح أحد أن يرمى كتابة أو سردية ما بالتزوير.
الذى يفسد تناول التاريخ هو الميل الايديولوجى حينا والاتجاهات السياسية حينًا اخر، مثل الاصرار على تجريد صلاح الدين الايوبى من منجزه الكبير فى حسم الصراع مع الصليبيين والصراع المذهبى فى منطقة المشرق العربي، تحديدا مصر وبلاد الشام؛ هذا فقط مجرد نموذج.
>>>
خارج المعارك الحربية والصراعات السياسية، هناك مناطق فى التاريخ لاتحكم بمنطق المنتصر والمنهزم،مثل القضايا الاجتماعية والثقافية، فى عصرنا الحديث يبرز مثلا الخلاف الحاد بين العقاد وزميليه شكرى والمازنى مع أمير الشعراء أحمد شوقي، صراع الامام محمد عبده، فضيلة المفتي، مع عدد من علماء الأزهر الذين رفضوا آراءه فى التجديد.
الى الآن مازال قاسم امين يجد هجومًا شديدا وانتقادًا حادًا، رغم ان الرؤية التى طرحها فى كتابيه «تحرير المرأة “ والمرأة الجديدة نفذت حرفيا منذ أكثر من مائة عام.
وهناك قضايا لها شعبوية اكثر، مثل عصابة ريا وسكينة، التى تم التحقيق فيها وهناك اعترافات وافية، ثم جاء من يصر انها قضية مفبركة من الاحتلال البريطاني، دون ان تكون هناك وقائع تحسم ذلك التصور، على الأقل تجعله مقبولًا، وهناك قضايا تظل موضع خلاف بين وجهات النظر واصحاب الافكار والمواقف المتباينة، مثل قضية أدهم الشرقاوي.. هل هو بطل شعبى ام شاب اعتدى على ممتلكات عمه؟
ومع ذلك فان الرؤى المتباينة فى هكذا قضايا يمكن ان تثرى الوعى العام وتقدم له أكثر من وجهة نظر.
فى كتابة التاريخ وتقديمه، كل مطالب ان يقدم رؤيته وقصته هو، وكل قصة تعبر عن اصحابها، المهم هنا هو مصداقية وعمق التقديم والتناول.