«إن وعد بلفور يتضمن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنه لم ينص على إلغاء الدولة الفلسطينية»، جملة قالها رئيس وزراء بريطانيا قبل اعتراف بلاده الرسمي بالدولة الفلسطينية ثم رفرف علم فلسطين على المكتب التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في لندن ليتحول إلى سفارة فلسطين، وفي يقيني أن الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية هو الأهم على الإطلاق وعلى رأس الاعترافات التي قاربت من 160 دولة، لأنها هي التي كانت وراء ذلك الوعد المشئوم في العام 1917 وظل حوالي 31 عاما قبل أن يتحول إلى واقع وحقيقة في 1948، في ظل ضعف عام ودول المنطقة تحت الاحتلال والانتداب الفرنسي والبريطاني وبعض الدول الاستعمارية الأوروبية.
وفي الحقيقة إن ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين لم يكن يتوقعه الأشخاص الحالمون الأكثر تفاؤلا في العالم، فهو ثورة تصحيح عالمية، ونتيجة جهود ومواقف مصرية تاريخية وآخرها الرفض التام لتهجير سكان غزة، والذي كان ترامب والنتن ياهو على بعد خطوة من تنفيذه بعد أن كان «وعد ترامب» لرئيس وزراء الكيان الصهيوني بتحويل القطاع إلى ريفيرا ومنتجع أمريكي، ولم يجد هذا الوعد الذي يعد أكبر من نكبة 48، إلا مصر التي وقفت في وجهه بقوة وحكمة في نفس الوقت، رغم الاستفزازات والتعنت والصلف الإسرائيلي.
ولم تكن الليلة تشبه البارحة على الإطلاق، بل كانت على العكس منها تماما، فلا مقارنة بين لقائي الرئيس الأمريكي ونتنياهو في واشنطن، بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 والدعم اللوجستي والعسكري والمعلوماتي والعملياتي والاستخباراتي لجيش الاحتلال المعتدي، وما بين لقائهما الثاني في نيويورك الأسبوع الماضي، وتغير موقف ترامب بعد مؤتمر حل الدولتين الذي سارع فيه عدد كبير من الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم تأكيد ذلك في كلمات قادة وحكام وممثلي دول العالم في أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما جعل الكيان الصهيوني في عزلة عالمية واضحة وغير مسبوقة منذ قيام هذا الكيان على أرض فلسطين التي اغتصبها في غفلة تاريخية.
وجاءت الصفعة الكبرى عندما بدت مقاعد الأمم المتحدة فارغة تعبيرا عن عزلة اسرائيل وهزيمتها السياسية، في صورة تاريخية ظهر خـلالها نتنياهو وهو يمصمص شفتيه تعجبا واندهاشا، عندما خلت القاعة من الوفود المشاركة إلا قليلا من المتصهينين الذين أصبحوا قلة منبوذة، فكان نتنياهو يخاطب «المقاعد» الخالية، ولم يجد من يسمع ترهاته وأكاذيبه التي اعتاد تكرارها في كل لقاء ومناسبة ليحاول أن يقنع العالم بأفكار خياله المريض، ويبرر التوحش الإجرامى لحرب الإبادة وهمجية إسرائيل العنصرية الفاشية التي شاهدها العالم على مدى عامين كاملين من سفك الدماء والدمار والتجويع لسكان غزة، بزعم تحرير الرهائن، بينما الهدف هو القضاء عليهم والتخلص منهم ومحاولة الاستحواذ على القطاع.
وبجانب الأسلوب الدموي الذي ينتهجه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي المتطرف، وما يواجهه من رفض واستنكار دولي للحرب الجائرة، يحاول تبرير جرائمه بإنهاء حركة حماس، وتباهى خلال كلمته، وكشف عن حقيقته بأنه وجه ضربات لإيران بحجة أنها كانت تطور بسرعة برنامجا ضخما للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية، بهدف تدمير إسرائيل وتهديد الولايات المتحدة، وسحقنا الحوثيين والجزء الأكبر من آلة حماس وقمنا بشل حزب الله، وهدد بأنه سيقضي على «المليشيات» في العراق.
وكنموذج للمواقف الدولية الرافضة للصلف الصهيوني جاء الخطاب القوي خلال جلسة الجمعية العامة، للرئيس الكولومبي جوستافو بيترو الذي شن هجوماً لاذعاً على سياسات إسرائيل، معتبراً أنها تهدد الإنسانية جمعاء، وقال إنهم لا يقصفون غـزة فقط، بل يهددوننا جميعا، محمّلاً الولايات المتحدة المسئولية عما وصفه بـ»التوحش»، ودعا دول العالم وشعوبها إلى توحيد الجيوش والأسلحة للتوجه لتحرير فلسطين وتحرير الإنسانية.
إن ما تحقق ـ رغم محاولة البعض التقليل من أهميته وآثاره ـ إلا أنه يعد انتصارا تاريخيا كبيرا بكل المقاييس، يجب البناء عليه واستغلال الفرصة لاستكمال الطريق حتى تقوم الدولة الفلسطينية بكل أركانها ويرفرف علمها بين الأمم.