فى واحدة من أغرب لحظات التاريخ السياسى المعاصر، جلس بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، مع مجموعة من أبرز المؤثرين الأمريكيين. لم يكن اللقاء فى الكنيست ولا فى البيت الأبيض، بل فى صالة تبدو أقرب إلى قاعة محاضرات شبابية، حيث العيون كلها مشدودة نحو شاشات الهواتف لا إلى أوراق الصحف أو قاعات البرلمان. نتنياهو، السياسى العجوز الذى قضى عقودًا فى دهاليز السلطة والحروب والمؤامرات، قرر أن يحدّث المؤثرين الجدد بلغتهم: لغة السوشيال ميديا. قال الرجل بوضوح: «السوشيال ميديا هى سلاح القرن الحادى والعشرين، ومنصات مثل تيك توك وإكس ليست مجرد تطبيقات، بل جبهات قتال». وهنا أدرك العالم أن الحروب لم تعد فقط فى غزة أو الضفة أو على حدود لبنان وسوريا، بل صارت على شاشة صغيرة بين أصابع المراهقين، حيث يتم تشكيل وعى أجيال كاملة، وحيث تتحول اللقطة القصيرة والفيديو الساخر إلى أداة دعاية أقوى من طائرة إف-16 أو دبابة ميركافا.
لطالما عُرفت إسرائيل بأنها بارعة فى توظيف أدوات الإعلام، من اللوبيات فى واشنطن، إلى شركات العلاقات العامة فى أوروبا. لكن الجديد الآن أن نتنياهو نفسه بات يعترف أن السوشيال ميديا «خاصة تيك توك وإكس» هى خط الدفاع والهجوم الأول. فبينما كانت إسرائيل تحاول فى الماضى إخفاء جرائمها عبر البيانات الرسمية، أصبحت الآن تسعى لتغطيها بتيار لا يتوقف من الفيديوهات الموجهة، والمحتوى «الترند»، والمفردات المفتاحية المصنوعة فى غرف مظلمة. تيك توك، المنصة الصينية التى اجتاحت العالم، تحولت فى نظر نتنياهو إلى معركة مفتوحة؛ لأنها باتت تمتلئ بمقاطع تكشف بشاعة العدوان على غزة وتوثّق بالدم والصورة ما لا يمكن إنكاره. لهذا يصرّ الرجل على ضرورة «غزو» هذه المساحة بالرسائل الإسرائيلية، حتى لو اضطر للتحالف مع مؤثرين غربيين يبيعون أصواتهم ومصداقيتهم مقابل حفنة من الدولارات أو بريق الشهرة. أما إكس «تويتر سابقًا» فقد صار ميدانًا آخر لا يقل أهمية. هنا تتحرك الحسابات الضخمة، ويتلاعب الذكاء الاصطناعى بالرأى العام، وتُدار الجيوش الإلكترونية كما لو كانت وحدات قتالية منظمة. نتنياهو يرى أن السيطرة على هذا الميدان تعنى الفوز فى معركة الرواية، وأن الهزيمة فيه أخطر من خسارة دبابة على حدود غزة.
الأخطر أن مكتب نتنياهو مضى أبعد من مجرد تصريحات. فقد كشفت تقارير صحفية أن حكومته وقّعت عقدًا بملايين الدولارات مع إدارة يوتيوب لإطلاق حملة منظمة تنفى رواية التجويع فى غزة، فى محاولة لتغيير وعى الجمهور العالمى وإخفاء معالم المجاعة التى صارت صورها تملأ الشاشات. هنا لم يعد الأمر مجرد اجتهاد إعلامي، بل صناعة دعائية رسمية ترعاها الدولة وتديرها شركات التكنولوجيا الكبري، فى تواطؤ فجّ يضيف طبقة جديدة من المعاناة للشعب الفلسطيني، ويُظهر كيف تتحول المنصات إلى أدوات تلميع للجرائم بدل أن تكون منابر للحقيقة.
لكن السؤال: أين نحن من كل هذا؟ فى منطقتنا العربية، ما زال كثيرون يتعاملون مع السوشيال ميديا باعتبارها مساحة للتسلية أو للتنفيس. نتجادل، نتلاسن، نصنع مفردات مفتاحية قصيرة العمر، ثم ينطفئ كل شيء. بينما يدرك نتنياهو أن هذه المساحة هى خزان الوعى العالمي، وهى الجبهة التى تُكسب إسرائيل أو تخسرها صورتها أمام الرأى العام الدولي. نحن بحاجة إلى وعى جديد: إن معركة الكلمة والصورة والفيديو ليست أقل خطورة من معركة البندقية والصاروخ. إذا كانت إسرائيل قد سخرت ملايين الدولارات لبناء حملات موجهة على تيك توك ويوتيوب وإكس، فهل من المقبول أن نظل نحن أسرى ردود أفعال عاطفية أو منشورات فردية لا تصنع تراكمًا؟ القضية ليست فقط فى كشف جرائم الاحتلال «وهذا واجب» بل فى تقديم روايتنا نحن بلغة يفهمها العالم: بلغة الصورة السريعة، الفيديو المؤثر، الرسالة التى تصل فى عشر ثوانٍ وتشعل ملايين العقول.
لقد أثبتت حرب غزة الأخيرة أن الكاميرا أقوى من القذيفة، وأن فيديو طفل يبحث عن أمه بين الركام يهزّ ضمير العالم أكثر من ألف بيان سياسي. نتنياهو يعلم ذلك جيدًا، ولذلك يسعى لتجنيد المؤثرين الأمريكيين ويبرم العقود مع يوتيوب ليعيد صياغة وعى الجمهور الغربي. لكنه نسى أن السوشيال ميديا، رغم أنها قد تُشترى بالأموال، تبقى مساحة حرة تتسرب إليها الحقيقة من بين أصابع الرقابة والرقمنة. نحن أمام مشهد شديد التعقيد: إسرائيل تسعى لاستخدام السوشيال ميديا كغطاء لجرائمها، بينما الشعوب «وفى مقدمتها شعوبنا» تملك فرصة ذهبية لاختراق وعى العالم من خلال المنصات نفسها. إنها معركة روايتين: رواية المحتل المزيفة المدعومة بالمليارات، ورواية المظلوم الصادقة المدعومة بالدماء والحقائق.
لقاء نتنياهو مع المؤثرين لم يكن حدثًا عابرًا، بل هو إعلان واضح أن معركة المستقبل لن تُحسم فقط فى الميدان العسكري، بل فى فضاء السوشيال ميديا. ونحن إن لم ندرك خطورة هذه الجبهة ونتعامل معها كقضية أمن قومي، سنترك الساحة خاوية يملؤها نتنياهو وأتباعه. إنها ليست مجرد حرب على تيك توك أو إكس أو يوتيوب، بل هى حرب على الوعى الإنسانى كله. ونحن، إن أردنا أن ننتصر، علينا أن نتحول من متفرجين إلى فاعلين، من مرددين للمفردات المفتاحية إلى صانعين للمحتوي، من مستهلكين إلى مبادرين. فالمعركة اليوم لم تعد فى السماء فقط ولا على الأرض، بل فى عقول الناس وقلوبهم. وهنا يُصنع النصر أو الهزيمة.