لم يعد يكفي للدور المصرى في القضية الفلسطينية أن نصفه بالمهم أو الرئيسي، أو الحيوي، فقد تجاوز كل هذه الأوصاف وأصبح الوصف المناسب له ولما قدمه ويقدمه للقضية الفلسطينية أنه دور وجودي، وبدونه لم تكن القضية موجودة حتى الآن ولا كان هناك حديث عن حل الدولتين، بل كنا سنتحدث أو نتساءل عن مصير الفلسطينيين وإلى أين يذهبون، هذه حقيقة وواقع يؤكده كل فلسطينى وهو ما قاله رئيس الوزراء الفلسطينى محمد مصطفى نفسه خلال زيارته إلى العريش قبل أسابيع قليلة عندما قال لولا الدور المصرى ما كنا نتحدث الآن عن القضية الفلسطينية، فقد وقفت سدًا منيعًا أمام مخططات التهجير، والجهد المصرى واضح لمن يريد أن يراه.
مصر لا تتعامل مع فلسطين كملف عادى أو قضية تؤدى دورها فيه كدولة عربية شقيقة أو بلد جوار، أو بمنطق إنسانى أو على سبيل المزايدة وإنما تتعامل معها كقضية مصرية فى المقام الأول، وجزء رئيسى وجوهرى من الأمن القومى المصرى بل مصيرها يرتبط بمصير مصر، كما تعتبر الشعب الفلسطينى جزءاً من الشعب المصرى.
ومن يراجع الموقف المصرى منذ 1948 وحتى الآن بموضوعية سيدرك معنى وأهمية هذا الدور وكيف كانت مصر دائما هى التى تحافظ على القضية وتحمى وجودها وتدعم مطالب الفلسطينيين المشروعة بل وتدافع عنها حتى بأرواح أبنائها. لكن ما حدث على مدى 70 عاماً شيء وما حدث خلال العامين الماضيين شيء آخر تمامًا، فالمؤكد أنه بعد إرادة الله تعالى لولا الموقف المصرى الصلب والثوابت الحاسمة التى أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسى لتحقق مخطط تصفية القضية وتهجير الفلسطينيين بهدوء وفى وقت قياسى لكن مصر هى التى منعت هذا المخطط.
منذ أول يوم للحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة فى 8 أكتوبر 2023 قرأت القاهرة المشهد جيداً وأدركت المخطط الأخطر فى هذا العصر، وأن ما يحدث من إسرائيل ليس مجرد رد فعل على عملية حماس، ولا هو تصرف انتقامي، بل تجاوز كل ذلك إلى تنفيذ مخطط فعلى لتدمير القضية وليس غزة، وتهجير الفلسطينيين وليس القضاء على حماس، وكان حديث الرئيس السيسى فى الأسبوع الأول للحرب على غزة واضحاً وصريحاً عندما أكد على هذا الأمر وحذر من تداعياته الكارثية وأعلن موقف مصر القاطع، لا تهجير ولا تصفية للقضية ولا تهاون فى الاقتراب من سيناء والأمن القومى المصري.
هذه الثوابت التى أصبحت أكبر عقبة أمام المخطط الإسرائيلى أربكت حسابات حكومة المتطرفين، بل وأفسدت كل التحركات الأمريكية لدعم نتنياهو فى القضاء على فلسطين، ووضعتهم أمام معضلة ضخمة، وهذا ما قاله واعترف به الإسرائيليون أنفسهم سواء فى صحفهم أو إعلامهم بل وحتى وزراء حكومة نتنياهو.
ولم تكتف مصر بهذا بل سخرت كل إمكانياتها الدبلوماسية والسياسية والإعلامية أولاً لفضح الجرائم الإسرائيلية ضد الأبرياء الفلسطينيين، وكشف الحقائق التى حاولت تل أبيب اخفاءها عن الرأى العام العالمي، وثانياً حشد الدعم الدولى لمساندة القضية ورفض تصفيتها والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وهو ما حدث فعلاً فى الأمم المتحدة هذا الأسبوع.
ورغم كل المتاعب التى واجهتها مصر والضغوط المعلنة والمبطنة التى تعرضت لها وعمليات التشويه التى استهدفتها على مدار العامين الأخيرين بسبب هذا الموقف الثابت، ورغم الاتهامات الكاذبة التى طالتها للنيل منها والتأثير على دورها، واستخدام الجماعة الإرهابية لمهاجمة مصر وقيادتها الوطنية، والتظاهر أمام سفاراتنا فى الخارج لترويج كذبة أن مصر تشارك فى حصار غزة.
لم تأبه مصر وقيادتها بكل هذا، بل واصلت دورها وأصرت على موقفها وخاضت كل أنواع المعارك من أجل فلسطين وقضيتها العادلة وحقوق شعبها المشروعة، وشعارها الدائم أن فلسطين قضية مصرية، وعندما نراجع تصريحات الرئيس السيسى وخطاباته المختلفة وبياناته ولقاءاته واتصالاته مع نظرائه حول العالم أو القمم التى شارك فيها على مدى العامين فلن تخلو مرة واحدة من التأكيد على هذه الثوابت بل والتشديد على موقف مصر الواضح الذى لا تنازل عنه، وحث المجتمع الدولى على ممارسة مسئولياته لحماية الأبرياء وإجبار الاحتلال على وقف الحرب بكل السبل وإدخال المساعدات.
نفس الموقف تؤكد عليه باستمرار المؤسسة الدبلوماسية المصرية فى كل الاتجاهات وعبر وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى الذى التقى خلال العام الماضى غالبية نظرائه حول العالم والمسئولين الدوليين وكان المحور الأهم فى كل لقاء هو ثوابت مصر فى القضية الفلسطينية وحق الشعب البريء فى إنهاء معاناته والحصول على حقوقه ودولته المستقلة.
فى ملف المساعدات تجلت الإرادة المصرية الحقيقية فى دعم الأشقاء فمن البداية كان الإصرار على إدخال المساعدات، رهنت مصر خروج الرعايا الأجانب من معبر رفح مقابل السماح بإدخال المساعدات، وسخرت مطاراتها وموانيها فى العريش لاستقبال كل المساعدات من العالم، وفى الوقت نفسه كانت صاحبة النصيب الأكبر من المساعدات التى وصلت إلى غزة بأكثر من 70% ناهيك عن آلاف الفلسطينيين الذين دخلوا مصر للعلاج أو السفر إلى دول أخري.
على الجانب السياسى حدث ولا حرج، مصر تحملت القضية بالكامل، طافت بها العالم، فتحت قنوات اتصال مع جميع العواصم وتحملت الكثير والكثير من أجل أن تفرض الرواية الفلسطينية الحقيقية فى مواجهة أكاذيب الاحتلال، الفلسطينيون أنفسهم يؤكدون أن طوفان الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية كانت مصر هى اللاعب الحقيقى فيه من خلال ما بذلته من جهد لإقناع العالم بحق الفلسطينيين فى دولتهم وإيقاف الظلم التاريخى الواقع عليهم، فرنسا أيضا كانت صريحة عندما أعلنت عبر مسئولين فيها بأن زيارة ماكرون إلى العريش ولقائه المصابين الفلسطينيين فى المستشفيات المصرية كانت السبب فى إعلانه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أما ستارمر رئيس الوزراء البريطانى فلا يخفى على أحد عدد الاتصالات التى جرت بينه وبين الرئيس السيسى طوال الفترة الماضية وكان لها تأثير كبير فى اقتناعه بتصحيح الجريمة التى ارتكبها بلفور قبل 108 أعوام.
هذه التحركات المصرية الواضحة، والموقف الصامد، والتحدى لكل العراقيل والتحديات التى وضعت فى طريقها كان السبب فيما وصلنا إليه الآن من خطوات تاريخيّة، وصلت إلى أن الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية ستتجاوز عدد الدول المعترفة بإسرائيل، بل وفضح تل أبيب عالمياً وفرض عزلة عليها، ومشهد نتنياهو وهو يلقى كلمة الاحتلال فى الأمم المتحدة خير شاهد، فقد غادر أغلبية الوفود القاعة ليخطب فى نفسه ووفد الاحتلال المرافق له وعدد من الأمريكان.
فى الوقت نفسه كان النقيض تماماً عندما أعلن ماكرون اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية كان الوفد المصرى هو الذى يقود الاحتفاء الكبير بهذا الإعلان فى قاعة الأمم المتحدة كرسالة بأن فلسطين حاضرة وإن غاب وفدها بسبب التعنت الأمريكي. هذه هى مصر، عندما تتواجد فتأثيرها هو الأكبر، وعندما تتحرك فما تريده هو ما سيحدث، مهما كان التحدي، ومن يرى حجم الضغوط التى مورست ضد القاهرة لتتراجع، أو تقبل التهجير وتستوعب بعض الفلسطينيين سيدرك أن الأمر ليس سهلاً وأن الموقف المصرى كان ثمنه غالياً لكن مصر تحملته دعماً للقضية الأهم بالنسبة لها دولة وشعباً.
أعتقد أن الدور المصرى وما قامت به الدولة فى سبيل فلسطين وشعبها وحقوقه المشروعة يستحق فعلاً أن يوصف بأنه دور وجودى وسيذكره التاريخ بأنه هو الذى حافظ على فلسطين وأفسد وأسقط مؤامرات تصفيتها، سينصف التاريخ مصر التى ظلمها الكثيرون وتآمروا عليها وهى تدافع عن أهم قضية عربية مثلما سيذكر التاريخ بحق الموقف الحاسم للرئيس السيسى الذى قاد المعركة فى كل الاتجاهات ودون تهاون وتحمل كل الاستهداف لشخصه ممن خانوا القضية.
لقد صنعت مصر وقيادتها الفارق وفرضت الحق الفلسطينى على الجميع، وهنا وجب تصحيح مفهوم يحاول البعض ترويجه مدعين أن طوفان الأقصى هو الذى أعاد القضية إلى الوجود وأنه جعل العالم يسارع للاعتراف بالدولة الفلسطينية وهذا قول فيه مبالغة ومغالطة، لأن الواقع والحقيقة أنه لولا ما قامت به مصر من جهود وما أعلنته من ثوابت لكان طوفان الأقصى هو بداية النهاية للقضية، فما ارتكبته إسرائيل من جرائم كان بسبب طوفان الأقصي، لكن من فضح جرائم إسرائيل ومن أوقف المخطط الإسرائيلى لتصفية القضية وساهم فى تحريك الرأى العام العالمى لصالح القضية هى مصر، وهذا ما يؤكده كل فلسطينى منصف ومدرك لحقيقة الواقع وليس مخدوعاً أو مغيباً أو إخوانياً خائناً.