فى عالم يعاد تشكيله كل يوم بقوة التكنولوجيا والمعرفة، لا تزال الأمية واحدة من أكبر التحديات التى تعيق حركة الإنسانية نحو التقدم.. هى ليست مجرد عجز عن القراءة والكتابة، بل جدار يفصل الإنسان عن حقه فى الوعي، وعن قدرته على المشاركة الحقيقية فى صناعة المستقبل..ولهذا يجيء اليوم العالمى لمحو الأمية، الذى يحتفل به العالم فى الثامن من سبتمبر، ليذكرنا أن التنمية لا تبدأ بالمشروعات ولا بالاقتصاد، بل من الإنسان نفسه، من عقله، ومن قدرته على أن يعرف ويختار ويفكر. الأمية فى القرن الحادى والعشرين لم تعد مجرد غياب القدرة على فك الحروف، بل غياب القدرة على التفاعل مع العصر..نحن أمام أمية رقمية، أمية قيم، أمية مشاركة.. إنسان لا يقرأ ولا يواكب، يظل خارج دائرة الفعل، عاجزًا عن أن يكون طرفًا فى المعادلة، حتى لو كان يحمل شهادة أو يجيد بعض المهارات.. وهذا ما يجعل من محو الأمية قضية معقدة، تبدأ من المدرسة ولا تنتهى إلا فى سوق العمل، تمر من البيت والشارع ووسائل الإعلام، لتتحول إلى قضية مجتمعية شاملة. تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 750 مليون إنسان حول العالم ما زالوا أسرى الأمية، غالبيتهم من النساء والفئات المهمشة.. وفى منطقتنا العربية، وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فإن نسب الأمية فى بعض الدول ما زالت مرتفعة، خاصة فى القرى والمناطق النائية، وهو ما ينعكس مباشرة على كل خطط التنمية، فلا عدالة ولا تمكين ولا مستقبل مستقر مع وجود هذا الخلل العميق.. ومن هنا تبرز أهمية الشراكة بين القطاع الحكومى والخاص والمجتمع المدني، فالمسؤولية لا يمكن أن تظل حكرًا على وزارة التعليم.. الإعلام، الاقتصاد، المؤسسات الثقافية والدينية، جميعها شريكة فى المعركة. ومن بين النماذج الملهمة التى تقدم درسًا عمليًا فى هذا السياق، تجربة «مجمع عمال مصر» الذى أسسه المهندس هيثم حسين..هذا المشروع لم يكتف بتدريب العمال على المهارات الفنية، بل جمع بين التثقيف والتعليم والتأهيل المهني، ليمنح الآلاف فرصة حقيقية للارتقاء بوعيهم ومكانتهم.. هو نموذج حى يؤكد أن مواجهة الأمية ليست ترفًا، بل قضية وجود، وأن الاستثمار فى الإنسان أكثر عائدًا من أى استثمار آخر. لكن السؤال الأهم: كيف نواجه الأمية اليوم؟ الجواب ليس فى حملات موسمية ولا فى شعارات مكررة، بل فى وضع استراتيجيات وطنية واقعية تراعى الفوارق الاجتماعية والثقافية، وتستخدم أدوات العصر من تعليم إلكتروني، ومنصات ذكية، وتطبيقات مبتكرة تجعل من التعلم رحلة ممتعة وليست عبئًا.. لا بد من دمج التعليم بفرص العمل، وربط المعرفة بالمهارة، وتحويل القراءة إلى أسلوب حياة يبدأ من الطفولة. الإعلام أيضًا عليه مسؤولية ضخمة: أن يقدم محتوى توعوياً ومعرفياً يفتح العقول بدلًا من اللهاث وراء التسلية الفارغة، وأن يشارك فى صناعة وعى جديد يعيد الاعتبار للعلم. المؤسسات الدينية والتربوية بدورها مطالبة بتمكين الأسر، ودعم الأمهات باعتبارهن خط الدفاع الأول ضد الأمية، وزرع حب القراءة فى الأطفال منذ الصغر كنافذة إلى العالم لا كواجب دراسي. إن الأمية اليوم تشبه الأوبئة، تقتل الوعى وتجمد حركة المجتمع وتفتح أبواب الفقر والبطالة .. محوها ليس رفاهية، بل هو معركة وجود.. . فدعونا نحتفل بهذا اليوم بالفعل لا بالقول، بالإنجاز لا بالشعار، ونحول معركة محو الأمية إلى مشروع وطنى يشارك فيه الجميع، لأنه ببساطة: من دون تعليم، لا حاضر ولا مستقبل.