فى منزلنا الريفى الكبير كانت هناك صورة كبيرة تتوسط حائط « المنضرة البحرية « رجل ذو مهابة عريض المنكبين تشعر أنه ظلل جانبى الجدار بكتفيه بعينين واسعتين لامعتى لاذعتى البريق.. فى سنوات عمرى الأولى كطفل يحبو وبحسب ما تسعفنى ذاكرتى رغم اعتيادى على مكان الصورة وألفتها وحين بدأت أتعلم اللغة كان السؤال من هذا الرجل؟ هل هو قريبنا من بعيد؟ هل هو عمى الذى سافر إلى «بلاد بره» ولم أره على الحقيقة ولو مرة واحدة وأذكر فيما أذكر أول إجابة قيلت لى من أبى رحمه الله بصوت «مبحوح» إنه أبونا كلنا الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فتابعت بسؤال ثان ومن هو جمال عبدالناصر؟ فقال أبى ستعرف مع الزمن من هو جمال عبدالناصر أو بالعامية المصرية « لما تكبر هاتعرف» وها أنا قد كبرت يا أبى ومازلت أعرف وما لا أعرفه عن جمال عبدالناصر حتى اليوم قد يكون أكبر مما عرفت.
بعد مُضى 55 عاماً على رحيل الجسد مازال الرجل يملأ الدنيا ويشغل الناس صوته مازال يصدح فى فضاءات الأوطان العربية مازال جمال يعيش فى وجدان الملايين يعيش جمال حتى فى موته مثلما قال الخال عبد الرحمن الأبنودى صورته لم تكن فقط معلقة فى مندرة بيتنا بل لا تزال معلقة فى الميادين مرسومة على طرقات اختارها أصحابها للنضال ترفض أن تغادر ذاكرة من عاصروه ومن جاءوا من بعده.
نقول دائما إن الإنسان ابن تجربته وجمال عبدالناصر كان نموذجا فريدا فى عصره صاحب تجربة لم تكن أبدا سهلة كان ومازال لها أثرها رغم محاولات التشويه التى لاحقته حيا وميتا وفى الحالتين لم تستطع تلك المحاولات المغرضة أن تنال من تلك التجربة ولا من حب ملايين المصريين والعرب له.
فى مثل هذا اليوم من كل عام الثامن والعشرون من سبتمبر ستجد رؤوسا تطل من وسائل التواصل الاجتماعى تبحث عن لقطة أو» تريند» على حساب الذكرى فيكيلون الاتهامات لرجل بين يدى رب كريم لم يستطع الرد عليهم ويدعون افتراء أن عبدالناصر ورطنا بأخطائه الكارثية – من وجهة نظرهم- لكن مثل هذا الجدل يذهب كل مرة بلا أثر فلا أحد يعرف حتى اليوم «سر ناصر» عند المصريين ، إنه الزعيم الذى حلموا به وصاغ أحلامهم صحيح لاحقته معاركه لكنه أبدا وحتى فى عز الانكسار والهزيمة لم يخذل الناس أخطأ وأصاب كسائر الناس والقادة لكن الناس كانت تصدقه ولا تزال تصدقه بعد موته بخمس وخمسين سنة.
جاحد وحاقد من ينكر أن القاهرة فى زمن عبدالناصر كانت العاصمة المركزية للعالم العربي، بدورها فى تحرير الجزائر واليمن والوقوف فى وجه قوى الطغيان والإمبريالية التقليدية ومطاردة الإمبراطوريات الغاربة فى مشرقها العربى كان عبدالناصر صاحب مشروع عروبى قومى بامتياز ملايين العرب رأوا فيه قائدهم إلى المستقبل، آمنوا بحلمه ومضوا معه، حتى فى أصعب وأقسى اللحظات وعندما وقعت نكسة يونيه عام 1967 بشجاعة الفرسان خرج ليعلن تحمله للخطأ وطلب بأن يتنحى وينضم لصفوف الجماهير لكن هذا قوبل بتظاهرات فى عواصم عربية تطالبه بالبقاء وهى تظاهرات عفوية خرجت بلا ترتيب لزعيم أحبوه ولن يريدوا له أن يتركهم ثم كان مشهد الوداع الأخير فى مثل هذا اليوم عام 1970 ليحفر فى ذاكرة التاريخ كأكبر جنازة عرفتها البشرية حب ما بعده حب.
اليوم تحل الذكرى الخامسة والخمسون لرحيل ناصر وها هو الرجل ما زال قادراً على إثارة الجدل والانقسام الحاد والجوهرى بشأنه، ما زال له من يدافع عنه لم يخصم من رصيده تعاقب السنين، أو تغير المآلات، وتبدل الظروف.
جمال عبدالناصر زعيم امتلك طموحاً تجاوز حدود وطنه وإقليمه، وبرز فى ظروف شهدت تحولات جيوسياسية عالمية، أثرت على السياسات الإقليمية والدولية اختار لنفسه أدواراً بقيت تذكر حتى اليوم، وأبقت الجدل حوله.. صحيح أن جمال عبدالناصر، مات جسدا، لكنه عاش حتى اليوم ويواجه أحياء يريدون النيل منه ومن سيرته.. مات عبدالناصر عن عمر قصير وتجربة كبيرة وعاش وسيعيش لأجيال.