القادة ليسوا مجرد وجوه تظهر على شاشات التلفاز أو أسماء محفورة فى دفاتر الدولة، بل هم البوصلة التى تحدد اتجاه الشعوب، إمّا صوب الشمس أو نحو الظلام. فى لحظة واحدة، قد يتخذ قائد قرارًا يهزّ موازين القوي، ويعيد رسم الخرائط، ويغيّر مصائر ملايين البشر. التاريخ ليس سوى دفتر ممتلئ بتوقيعات هؤلاء القادة؛ توقيعات اتخذت شكل قرارات، بعضها أشعل الحروب وبعضها أطفأها، بعضها منح الأمل وبعضها أورث الخراب.
فلننظر إلى لحظة فارقة فى القرن العشرين: ونستون تشرشل، الرجل الذى حمل بريطانيا على كتفيه فى أشد ساعات الحرب العالمية الثانية قسوة. حين أعلن أمام شعبه «لن نستسلم»، لم يكن يبيع أوهامًا، بل كان يزرع روح الصمود. كانت كلماته بمثابة قرار مصيرى حوّل الخوف إلى مقاومة، واليأس إلى عزيمة، فثبتت بريطانيا فى وجه آلة هتلر العسكرية حتى تبدل مسار الحرب. هنا يظهر كيف أن قائدًا قادرًا على تحويل الكلمة إلى سلاح أقوى من المدفع.
على الضفة الأخري، كان قرار هارى ترومان استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان عام 1945 قرارًا رسم نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنه فتح فى الوقت ذاته أبوابًا جديدة للرعب النووي. قرار واحد جعل العالم ينقسم بين قوى نووية وأخرى تقليدية، وفرض واقعًا إستراتيجيًا ما زال يحكم السياسة الدولية حتى اليوم. فى هذه اللحظة نفهم أن القادة لا يرسمون فقط حاضر أممهم، بل يضعون خطوطًا على وجه المستقبل قد لا تُمحى لعقود طويلة.
أما فى الشرق الأوسط، فقد جاء جمال عبدالناصر ليعلن أن مصر لن تكون بعد اليوم ساحة مفتوحة للإرادة الأجنبية. قرار تأميم قناة السويس لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل إعلان سيادة، قرار أشعل حربًا ثلاثية لكنه أشعل أيضًا شعورًا قوميًّا عربيًّا لم ينطفئ بسهولة. كانت تلك اللحظة شهادة على أن القائد حين ينطق من قلب الأمة يزرع فيها الثقة، حتى وإن دفع ثمنًا غاليًا.
فى الهند، قاد المهاتما غاندى شعبه نحو الاستقلال بلا بندقية واحدة. قراراته بالعصيان المدني، ومقاطعته للمنتجات البريطانية، تحولت إلى زلزال أسقط أكبر إمبراطورية فى ذلك الزمن. غاندى أثبت أن القائد قد يحوّل الضعف إلى قوة إذا امتلك إيمانًا مطلقًا بالعدالة ووعيًا بقدرة الجماهير على التغيير.
لكن التاريخ أيضًا يسجل قرارات القادة التى انزلقت بالأمم إلى الفوضي. غزو العراق عام 2003، بقيادة جورج بوش الابن وتونى بلير، كان قرارًا مهولاً قلب المنطقة رأسًا على عقب. باسم الحرية والديمقراطية، فُتحت أبواب الجحيم على شعوب دفعت ثمن دماء وحروب لا تزال نارها مشتعلة. هنا ندرك أن قرارًا خاطئًا قد يحكم على أمة بأجيال من المعاناة.
على النقيض تمامًا، يقف نيلسون مانديلا كنموذج للقائد الذى امتلك شجاعة مختلفة: شجاعة التسامح. بعد سنوات السجن الطويلة، لم يخرج لينتقم من جلاديه، بل قرر أن يقود جنوب افريقيا عبر طريق المصالحة لا الانتقام. ذلك القرار وحده أنقذ بلاده من حرب أهلية، وجعل من مانديلا رمزًا عالميًا للحكمة.
القادة إذن هم صناع القدر. لكن ليس كل قائد يُحسن استخدام البوصلة. بعضهم يقود أمته نحو الفجر، وبعضهم يقودها إلى المتاهة. الفارق يكمن فى وعى اللحظة ورؤية المستقبل. كلمة أو قرار قد تبنى دولة أو تهدم حضارة.
اليوم، ونحن نعيش فى عالم تتشابك فيه الأزمات والتحديات، ندرك أن الشعوب لا تحتاج فقط قائداً شجاعاً، بل قائداً مبصراً يرى أبعد من حدود الكرسي، قائداً يدرك أن ما يقرره فى لحظة سيكون مستقبلاً مكتوبًا لأجيال لم تولد بعد. القادة العظام يعرفون أن التاريخ لا يرحم، وأن البوصلة التى يحملونها إما أن تقود شعوبهم إلى الحرية والكرامة، أو أن تضل بها الطريق فى صحراء التيه.
إذا كانت إدارة الدول فنًا عسيرًا، فإن إدارة مصر وسط هذا الإقليم البائس هى أصعب الفنون وأقسى التحديات. هنا تتجلى حكمة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى تحمل ضغوطًا غير مسبوقة، لكنه اختار دومًا أن تكون قراراته فى مصلحة الأمة. قراراته لم تكن صدى للحظة، بل كتابة لتاريخ جديد، حيث تُسطر مصر سطورًا مختلفة فى كتاب المنطقة، بفضل بوصلة قائد عرف الطريق، وامتلك شجاعة أن يقود السفينة وسط العواصف.