الوطن ليس مجرد حدود على الخريطة ولا قطعة أرض مرسومة باللون الأخضر أو الأصفر فى كتب الجغرافيا، بل هو الحاضن الأول والأخير للإنسان، هو الكيان الذى يمنحنا الهوية والمعني، ويصوغ ملامحنا وذاكرتنا. لذلك فإن الاعتصام بحبل الوطن ليس خيارًا، وإنما هو فريضة لازمة، تمامًا كما يعتصم المرء بحبل الله المتين، لأن الوطن منحة إلهية ووديعة مقدسة، والتفريط فيه جريمة فى حق الماضى والحاضر والمستقبل. ومن هنا يصبح الاعتصام بحبل الوطن جزءًا لا يتجزأ من الاعتصام بحبل الله، فالله يأمرنا بالوحدة ونبذ التفرق، وما الوطن إلا صورة من صور هذه الوحدة، ووعاء يجمعنا تحت راية واحدة.
لقد علمتنا التجارب أن الأمم التى تتفرق وتتشرذم تضيع وتنهار، أما تلك التى تتوحد وتشد بعضها بعضًا فإنها تبقى وتصمد، مهما اشتدت العواصف وتعاظمت التحديات. والتاريخ حافل بأمثلة لا تُحصى عن شعوب لم يكن لها نصيب فى الثروات أو الموارد، لكنها امتلكت روح الانتماء، فصارت أعظم من أصحاب الجيوش الجرارة والاقتصادات الطاغية. فالوطن ليس بوفرة الذهب ولا البترول، وإنما بما يحمله أبناؤه من إيمان بقيمته وحرص على بقائه.
وفى مصر، هذه الأرض التى اختارها الله لتكون قلب الدنيا ومهوى الأفئدة عبر القرون، فإن قيمة الاعتصام بحبل الوطن تتضاعف. فهنا عاشت حضارة عمرها سبعة آلاف عام، قاومت الغزاة، وصدّت العدوان، ووقفت شامخة فى وجه التتار والصليبيين والمستعمرين. لم تنكسر مصر إلا حين تفرّق أبناؤها وتنازعوا، ولم تنهض إلا حين اجتمعوا على كلمة سواء. ولنا فى ملحمة السادس من أكتوبر خير شاهد على أن التماسك الوطنى كان السلاح الحقيقى الذى سبق الطائرات والدبابات.
اليوم، ونحن نعيش فى عالم شديد الاضطراب، حيث تتنازع القوى وتتصارع المصالح، يصبح التمسك بالوطن أكثر من واجب، يصبح فرض عين على كل مصري. لا يجوز أن ننشغل بخلافات صغيرة أو حسابات ضيقة تفت فى عضد الوطن، ولا أن نسمح لأصوات الفتنة أو دعاة الهدم أن يجدوا بينهم منفذًا. إن الأوطان لا تُبنى بالصخب ولا بالجدل الفارغ، وإنما تُبنى بالعرق والدم والولاء الصادق.
الاعتصام بحبل الوطن يعنى أن نرتقى فوق أهوائنا، وأن نقدم مصلحة مصر على كل مصلحة شخصية أو حزبية. يعنى أن ندرك أن اختلافنا رحمة إذا كان فى إطار المصلحة العامة، ولكنه نقمة إذا تحوَّل إلى صراع يهدم البيت على رؤوس أصحابه. يعنى أن نصون الجيش والشرطة والقضاء والتعليم والإعلام من سهام التشكيك والإحباط، لأن هذه المؤسسات هى أعمدة الوطن الراسخة.
والوطن فى النهاية أمانة، ومن خان الأمانة خسر الدنيا والآخرة. ومصر لن يحميها إلا المصريون، ولن يرفع رايتها إلا سواعد أبنائها. فإذا اعتصمنا جميعًا بحبلها المتين، فلن تهزمنا قوة، ولن تنال منا مؤامرة. أما إذا تفرّقنا وتركنا الحبل يتمزق بين أيدينا، فساعتها لن يرحمنا التاريخ، ولن نجد لنا مكانًا بين الأمم.
لهذا، فإن الاعتصام بحبل الوطن ليس شعارًا نردده فى المناسبات، بل هو فريضة يومية تبدأ من البيت وتنتهى عند حدود الوطن. هو التزام بالعمل، وصدق فى القول، وإخلاص فى العطاء، واستعداد للتضحية إذا دعا الداعي. هو امتداد لمعنى إيمانى راسخ، بأن الاعتصام بحبل الله لا يكتمل إلا بالاعتصام بحبل الوطن، لأن الدين والوطن توأمان لا ينفصلان، ومن يحاول الفصل بينهما إنما يعبث بأساس بقائنا.
فليكن شعارنا دائمًا: نحن حراس مصر، وسنظل صفًا واحدًا، نعتصم بحبلها المتين، ونبنى حاضرها ومستقبلها كما بنا أجدادنا ماضيها المجيد.