أواصل الحديث حول الإستراتيجية الوطنية للتصنيع، وأتحدث اليوم عن تصنيع العقاقير الطبية.
وكانت يعلم أن مصر تسعى جاهدة لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى مختلف القطاعات، ومن بينها القطاع الدوائي.. تُعدّ النباتات الطبية مصدرًا رئيسيًا للعديد من الأدوية، وتعتمد عليها صناعة الأدوية بشكل كبير.. فى هذا الإطار، تتبنى مصر إستراتيجية طموحة لزراعة هذه النباتات، بهدف تغذية صناعة العقاقير الطبية المحلية وتقليل الاعتماد على الاستيراد.. هذه الإستراتيجية لا تعزّز فقط الأمن الدوائي، بل تفتح آفاقًا جديدة للاستثمار والتصدير، وتدعم الاقتصاد الوطني.. وتكتسب زراعة النباتات الطبية أهمية قصوى فى السياق المصرى لعدة أسباب.. أولاً، الأمن الدوائى فمن خلال تأمين المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية محليًا، يمكن لمصر ضمان استمرارية إنتاج الأدوية الأساسية حتى فى ظل الأزمات العالمية.. وثانيًا التنمية الاقتصادية حيث تتيح هذه الزراعة فرصًا استثمارية جديدة، وتخلق وظائف فى مجالات الزراعة، والتصنيع، والتصدير.. وثالثًا تنوع المناخ والتربة فى مصر يتيح زراعة مجموعة واسعة من النباتات الطبية، مثل: النعناع والكاموميل، والحبة السوداء، والزعتر.. هذه النباتات تتكيف مع الظروف البيئية المصرية، مما يجعلها خيارًا مثاليًا للزراعة على نطاق واسع.
وتعتمد إستراتيجية مصر لزراعة النباتات الطبية على عدة محاور رئيسية لضمان نجاحها واستدامتها. وتُعدّ الأبحاث العلمية حجر الزاوية فى هذه الإستراتيجية.. وتتعاون وزارة الزراعة ومراكز البحوث الزراعية مع الجامعات والمؤسسات البحثية لتحديد أفضل أنواع النباتات الطبية التى يمكن زراعتها فى مصر، وتطوير سلالات محسنة تتميز بإنتاجية أعلى وتركيز أكبر للمواد الفعالة.. كما يتم دراسة الظروف المثلى للزراعة، بما فى ذلك نوع التربة، وأنظمة الري، والتسميد.. كما يتم تخصيص أراضٍ زراعية جديدة فى الصحراء الغربية والشرقية، وكذلك فى صعيد مصر، لزراعة النباتات الطبية.. هذه الأراضى تُجهّز ببنية تحتية مناسبة، مثل أنظمة الرى الحديثة «الرى بالتنقيط» التى تساعد على ترشيد استهلاك المياه، وهو أمر حيوى فى بلد يعانى من شح المياه.. وتقدم الحكومة حوافز ودعمًا للمزارعين والشركات الراغبة فى الاستثمار فى هذا القطاع.. يشمل ذلك توفير التمويل اللازم، وتقديم الإرشاد الزراعى المتخصص، وتسهيل إجراءات الحصول على الأراضى والتراخيص.. كما يتم تنظيم ورش عمل تدريبية للمزارعين لتعليمهم أفضل الممارسات فى زراعة وحصاد النباتات الطبية لضمان جودة المنتج النهائي.
ويشكّل التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص محورًا أساسيًا فى هذه الإستراتيجية.. ويتم تشجيع الشركات المحلية والدولية على الاستثمار فى مجال زراعة وتصنيع النباتات الطبية، من خلال توفير بيئة استثمارية جاذبة. هذا التعاون يساهم فى نقل الخبرات التكنولوجية الحديثة وزيادة حجم الاستثمارات فى هذا القطاع الواعد.
رغم الفرص الكبيرة تواجه إستراتيجية زراعة النباتات الطبية فى مصر بعض التحديات التى يجب التغلب عليها.. أولاً، نقص الخبرات المتخصصة فى بعض الأحيان، مما يتطلب تدريب وتأهيل الكوادر البشرية.. ثانيًا التسويق فمن الضرورى إيجاد قنوات تسويقية فعّالة للمنتجات المحلية، سواء داخل مصر أو فى الأسواق العالمية. ثالثًا، التقنيات الحديثة، حيث تتطلب زراعة ومعالجة النباتات الطبية استخدام تقنيات متقدمة لضمان جودة المنتج وسلامته.
ومع ذلك فإن الفرص المتاحة تفوق التحديات. فمصر تتمتع بموقع جغرافى إستراتيجي، مما يسهّل تصدير المنتجات إلى أسواق أوروبا، وآسيا، وأفريقيا.. بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو المتزايد لسوق الأدوية العشبية على المستوى العالمى يفتح الباب أمام فرص تصديرية ضخمة.. كما أن الاستفادة من التنوع البيولوجى فى مصر يمكن أن يؤدى إلى اكتشاف نباتات طبية جديدة ذات خصائص فريدة، مما يعزز مكانة مصر كمركز رائد فى هذا المجال.
المحور الرابع: قصص نجاح وتطلعات مستقبلية بدأت بالفعل بعض قصص النجاح فى هذا المجال. فقد بدأت شركات مصرية فى زراعة أنواع معينة من النباتات الطبية على نطاق تجاري، وتوفيرها للمصانع المحلية.. هذه الشركات تساهم فى تقليل الفجوة بين العرض والطلب على المواد الخام الدوائية.
وتتطلع مصر إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا وعالميًا لزراعة وتصنيع النباتات الطبية.. وهذا يتطلب مزيدًا من الاستثمار فى البحث والتطوير، وبناء شراكات قوية مع الشركات العالمية المتخصصة، وتطوير قوانين وتشريعات داعمة لهذا القطاع.. والهدف النهائى هو إنشاء منظومة متكاملة تبدأ من الأرض الزراعية وتنتهى بالمنتج الدوائى النهائي، مما يضمن الجودة، ويقلل التكاليف، ويعزز القدرة التنافسية لمصر فى الأسواق العالمية.. إن زراعة النباتات الطبية خطوة استباقية نحو تعزيز الأمن الدوائى والاقتصاد الوطني. من خلال الاستثمار فى البحث العلمي، وتخصيص الأراضي، ودعم المزارعين، والتعاون مع القطاع الخاص، يمكن لمصر أن تحوّل التحديات إلى فرص، وتفتح آفاقًا جديدة للنمو والتنمية. هذه الإستراتيجية لا تضمن فقط توفير المواد الخام للصناعات الدوائية، بل تضع مصر على خريطة الدول الرائدة فى مجال الزراعة المستدامة والاقتصاد القائم على المعرفة.
وللحديث بقية.