لم تعد الإدارة بمفهومها الحديث مجرد مجموعة من القرارات تُتخذ أو إجراءات تُنفذ، بل أصبحت ممارسة إنسانية في جوهرها؛ فالموظف اليوم يُنظر إليه كعنصر فاعل يملك القدرة على التفكير والإبداع، وله مشاعر واحتياجات وظروف شخصية لا يمكن تجاهلها، ومن هنا، لم تعد الإدارة تُقاس فقط بقدرتها على تحقيق الأهداف، بل أيضًا بقدرتها على احترام الإنسان، ورعاية طاقاته، وتوفير بيئة عمل تُقدر قيمته وتُطلق إمكاناته.
ووصفت العلوم الإدارية الإدارة من منظور إنساني، بأنها التي تأخذ في اعتبارها البعد الإنساني، وتنظر إلى العاملين لا بوصفهم مجرد أدوات لإنجاز المهام، بل كأفراد يحملون قصصًا وتحديات وظروفًا خاصة، ولديهم احتياجات نفسية واجتماعية تستدعي الفهم والتقدير والاحتواء.
إنها إدارة تتجاوز اللوائح الجامدة، وتركز بدلًا من ذلك على رعاية المواهب، وبناء ثقافة تنظيمية إيجابية، وتوفير بيئة عمل تدعم الرفاهية النفسية والعملية للموظفين، باعتبارهم القوة الدافعة للنجاح المؤسسي على المدى البعيد.
ويظهر هذا البُعد الإنساني ليس فقط في السياسات الكبرى، بل أيضًا في تفاصيل الحياة اليومية داخل بيئة العمل؛ فموقف بسيط قد يكشف مدى قدرة الإدارة على فهم احتياجات موظفيها أو تجاهلها، كما في قصة موظف طلب من مديره تأخير موعد حضوره نصف ساعة يوميًا ليتمكن من توصيل ابنه الصغير إلى المدرسة، لم يطلب تقليلًا في المهام أو إعفاءً من العمل، بل قليلًا من المرونة لتحقيق التوازن بين مسؤولياته العائلية والوظيفية. لكن المدير رفض الطلب بشكل قاطع دون مراعاة للظروف، مكتفيًا بجملة: “لو وافقت، زملاؤك هيقولوا: أشمعنى؟”. بهذا الرد، غاب البُعد الإنساني، واستمرت معاناة الموظف حتى اضطر إلى أخذ إجازاته لتلبية التزاماته الأسرية.
ومن هنا أصبحت الحاجة مُلحة إلى نمط إداري يُنصت، ويتفهم، ويحتوي، لا يكتفي بالمراقبة والعقاب؛ نمط يُدرك أن تحفيز الإنسان لا يتحقق بالأوامر الصارمة، بل ببناء الثقة وتقديم الدعم، وتؤكد التجارب العالمية أن تبني هذا المنظور الإنساني في الإدارة ليس تصورات مثالية يصعب تنفيذها، بل خيار إستراتيجي يحقق نتائج ملموسة، ويُعد نموذج شركة “جوجل” أحد أبرز الأمثلة العالمية على الإدارة من منظور إنساني؛ إذ تعتمد سياسة “20% من الوقت” التي تتيح للموظفين تخصيص جزء من أسبوعهم المهني للعمل على مشاريع ذاتية يختارونها بأنفسهم، مما يعزز الشعور بالحرية والثقة والإبداع، وقد أثمر هذا النهج عن ابتكارات رائدة مثل Gmail وGoogle News، الأمر الذي يعكس كيف يمكن للتمكين الإنساني أن يتحول إلى قيمة إنتاجية مضافة، تعزز النمو وتدعم التميز التنظيمي في بيئة ديناميكية عالية التنافسية.
كما تُمثل شركة “أرامكو السعودية” نموذجًا يُحتذى في تطبيق مبادئ الإدارة من منظور إنساني؛ فبالرغم من عملها في قطاع الطاقة، فقد طورت نموذجًا إداريً يهتم بالعنصر البشري، ويركز على جودة حياة العاملين، مما يجعلها مثالًا قويًا لتطبيق الإدارة من منظور إنساني في بيئة عمل تقنية وصناعية، فقد تبنت برامج متكاملة لدعم الموظفين نفسيًا ومهنيًا، مثل مُبادرة “برنامج العافية” التي تهدف إلى تعزيز الصحة النفسية والجسدية داخل بيئة العمل، بالإضافة إلى توفير مسارات واضحة للتطوير المهني والتمكين القيادي، خاصة للشباب والنساء، وتُظهر تقارير الموارد البشرية في أرامكو أن هذا النهج الإنساني ساهم في رفع مستويات الرضا الوظيفي، وتقليل معدلات دوران العمل، فضلًا عن تعزيز الولاء التنظيمي، ما يعكس كيف يمكن للبعد الإنساني أن يتحول إلى أداة إستراتيجية تعزز الاستقرار والتميز في بيئة العمل.
وتظهر هذه النماذج الإدارية الناجحة أن الإدارة من منظور إنساني ليست رفاهية تنظيمية، بل ضرورة متزنة تجمع بين احترام الإنسان وتحقيق الأهداف، كما إنها لا تعني التخلي عن الانضباط أو التساهل في الإنجاز، بل تعني بناء بيئة تُمكن الفرد من أن يعطي أفضل ما لديه لأنه يُعامل باحترام، ويُنظر إليه كإنسان قبل أن يكون موظفًا.
وفي دعم لهذا التوجه، فقد أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum, 2023) إلى أن مستقبل العمل يتطلب “مهارات إنسانية” مثل التعاطف، والتواصل، والقيادة الواعية، أكثر من مجرد المهارات التقنية أو الأنماط الإدارية القديمة التي تعتمد على الأوامر والسيطرة.
ولأن الإنسان في صلب هذا التوجه، فإن الإدارة الإنسانية تنظر إلى كل قرار تنظيمي من زاويتين: ما مدى كفاءته؟ وما أثره على الموظفين؟ وعند تعارض الانضباط مع الرحمة، فهي تبحث عن حلول ذكية لا تتجاهل أحدهما لحساب الآخر.
ولكي تتحقق هذه الثقافة داخل المنظمات، لا يكفي تبني شعارات رنانة عن التحفيز أو بيئة العمل الصحية، بل لابد أن تظهر القيم الإنسانية في الممارسة اليومية وفي أبسط التفاصيل التنظيمية، ومنها الاستماع الفعال لا التوجيه فقط، القائد الإنساني لا يكتفي بإعطاء التوجيهات، بل يستمع، ويتفاعل، ويُشعر موظفيه بأنهم شركاء في القرار، ويُظهر احترامه لمشاعرهم وآرائهم، كما يعتبر التقدير النفسي من العوامل الهامة، والذي يأتي من خلال كلمات الشكر، والاعتراف بالجهد، وبناء الثقة.
ومن هذا المنطلق، تُصبح الإدارة من منظور إنساني فلسفة عملية تعكس وعيًا جديدًا بدور الفرد في قلب العملية الإدارية، وممارسة تقوم على التوازن بين الكفاءة والرحمة، وبين القواعد والحكمة. إنها لم تعد خيارًا ترفيهيًا أو توجهًا مثاليًا، بل ضرورة حتمية في بيئة عمل ديناميكية ومعقدة تتسارع فيها المتغيرات وتتزايد فيها الضغوط النفسية؛ فالموظفون اليوم يتطلعون إلى ما هو أبعد من الهياكل الإشرافية التقليدية؛ إنهم يبحثون عن بيئات يشعرون فيها بالتقدير والدعم، ويُمنحون فيها فرصًا حقيقية للتمكين والمشاركة الهادفة، ومن خلال دمج قيم مثل التعاطف، والمرونة، والاهتمام بالصحة النفسية في الممارسات الإدارية اليومية، تستطيع المؤسسات إطلاق الإمكانات الكامنة لموظفيها، بما يعزز الاستدامة، ويطلق الابتكار، ويرسخ الرضا الوظيفي كدعائم لنجاح طويل المدى.