.. قبل وبعد انفرادها بإدارة العالم ارتكبت الولايات المتحدة العديد من الأخطاء والخطايا التى تصل إلى حد الجرائم، وكان إلقاء قنبلتين ذريتين فوق هيروشيما ونجازاكى وتدمير المدينتين وسقوط عشرات الآلاف من اليابانيين نقطة البداية فى إعلان أمريكا كإحدى قوتين عظميين فى العالم بعد نهاية الحرب الثانية عام 1945، وعقب هذا التاريخ لم تتوقف الخطايا الأمريكية فى حرب الكوريتين وفى حرب فيتنام وفى بعض الحروب المحدودة بالشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما تزايدت خطايا أمريكا بشكل واضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق عام 1991، وأتاح سقوط «القوة العظمى الثانية» فى العالم انفراد واشنطن بالقرارات الدولية والانحياز لإسرائيل بشكل فاضح واستهداف المنطقة العربية، والأخطر من ذلك ما فعلته أمريكا خلال الشهور الأخيرة بالنيل من الدور المحورى الذى تمارسه الأمم المتحدة فى وقف الصراعات والحروب، وتقويض دور مجلس الأمن فى تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
>>>
لقد تسببت التقديرات الخاطئة والتدخلات الأمريكية قبل أكثر من ثلاثة عقود فى انهيار الاتحاد السوفيتى السابق وشكل الحدث صدمة للعالم من العيار الثقيل، ولو كان السوفييت يعلمون أن «البروستاريكا» أو برنامج التغيير الذى جاء به آخر زعيم سوفيتى «ميخائيل جورباتشوف» صناعة أمريكية، لما سمحوا بتمرير هذا البرنامج ولما تركوا المجال للولايات المتحدة تفعل فيه ما تريد، فقد منح السقوط السوفيتى الفرصة لأمريكا لقيادة العالم واستغلت واشنطن الظروف فى وضع العراقيل أمام استعادة نفوذ روسيا باعتبارها الوريث الشرعى للإمبراطورية السوفيتية الزائلة، كما عملت على تقويض أى مواءمة «روسية ـ صينية» تعيد التوازن لدول العالم، هذا فى الوقت الذى استشعرت فيه الدول النامية بما فيها الدول العربية أن القادم أصعب فى ظل ما هو معروف عن السياسة الأمريكية بأنها تعتمد على إشعال الحروب وبيع الأسلحة والسيطرة على مناطق النفط والغاز، لمواصلة السيطرة على العالم.
>>>
وحقيقة فإن المراقب للمشهد الإقليمى يرى أن التحولات فى الشرق الأوسط كانت كبيرة ومؤثرة خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، فالولايات المتحدة الضامنة لأمن لإسرائيل، استشعرت بعد حرب أكتوبر 1973 أن أمن الكيان الصهيونى بات مهدداً، لذا فقد سارعت بتبنى مفاوضات كامب ديفيد ورعت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة عام 1979، كما رعت اتفاق وادى عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل عام 1993 كذلك اتفاق أوسلو للسلام بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى عام 1994، وهنا تبقى ملاحظة جديرة بالاهتمام فالاتفاقان الأخيران تم توقيعهما بعد انفراد أمريكا بقيادة العالم وقد ساهما فى البداية فى إيجاد تهدئة بالشرق الأوسط، غير أن هذه التهدئة سرعان ما تبددت بعد افتعال حادث 11 سبتمبر 2001 فى نيويورك، ثم قيام أمريكا بغزو أفغانستان فى نفس العام وغزو العراق عام 2003، وهو ما أدى فى النهاية إلى استفحال خطر التنظيمات الإرهابية فى ليبيا وسوريا والعراق وفى المنطقة العربية بوجه عام.
>>>
الحقيقة الثانية فى هذا السياق أن المواقف الأمريكية تجاه الدول العربية والشأن الفلسطينى بالتحديد لم تكن لتحدث بدون توافق بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وبريطانيا العظمى بالتحديد باعتبارها تشكل جذور نشأة أمريكا وباعتبارها كذلك صاحبة وعد بلفور بإنشاء وطن قومى لليهود بفلسطين ولكونها إحدى الدول الاستعمارية الكبرى لدول الشرق الأوسط قبل أن تنال هذه الدول استقلالها، وقد كان هناك توافق دائم بين أوروبا وبين أمريكا من ناحية وبين الأخيرة وبريطانيا فى معظم المواقف الغربية التى اتخذت خلال العقود الثلاثة الماضية تجاه العرب، غير أنه ولأول مرة غاب هذا التوافق فى بعض المواقف التى اتخذت تجاه العدوان الإسرائيلى على غزة والقضية الفلسطينية، سيما بعد تعمد أمريكا التغطية على جرائم الاحتلال واستخدام حق «الفيتو» لمنع إصدار قرار بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية فى القطاع.
>>>
الحقيقة الثالثة وتتعلق بما أحدثه العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة من تحولات شعبية حقيقية فى الغرب وكانت سبباً مباشراً فى تغيير المواقف السياسية الرسمية لمعظم الحكومات الأوروبية لصالح سكان غزة والقضية الفلسطينية خاصة بعدما كشف العدوان عن عورات وتناقضات فى فكر الكيان الصهيونى وتطرف أعضاء الحكومة الإسرائيلية، وعن سطحية وانبطاح الإدارة الأمريكية، وقد تزامن مع ذلك نشر تقارير دولية تؤكد ارتكاب إسرائيل جرائم حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى غزة وأن عدم اتخاذ أى إجراء لوقف هذه الحرب يعد تواطؤا مع الاحتلال الإسرائيلى، لذا فقد سعت معظم الدول الأوروبية للكشف عن هذه الجرائم، كما جاء الاعتراف بفلسطين من قبل عدد من الدول بينها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا، ليكون دليلاً دامغاً على أن الدولة الفلسطينية ربما تكون سبباً مباشراً فى وقوع انشقاق «قريب» بين أمريكا وأوروبا، وربما يضطر بعض الحلفاء الآخرين إلى القفز من سفينة الهيمنة الأمريكية قبل السقوط والغرق.