وسط مهرجان عالمى غير مسبوق للاعتراف بالدولة الفلسطينية فى اجتماع تاريخى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى ذكرى مرور ثمانين عاما على ميلاد المنظمة الدولية، بدأ خطاب الرئيس الأمريكى ترامب «عزفاً منفرداً» لنغمة نشاذ، مليئاً بالتناقضات الفاضحة، وخارجا على حدود اللياقة، على الأقل تجاه منظمة يحتفل العالم كله بعيد ميلادها، وتجاه الشعب الفلسطينى وقضيته التى جاء العالم كله للمشاركة فى دعمه.
قال ترامب، «إن الاعتراف «الأحادى» بالدولة الفلسطينية أكبر مكافأة لحركة حماس، وتشجيع على استمرار الصراع».
جملة مليئة بسوء الفهم والتضليل..
فالقضية الفلسطينية ليست قضية «حماس» أو «فتح» أو الجهاد، أو أى فصيل آخر أياً كان اسمه، لكنها قضية شعب هو الشعب الفلسطينى بأكمله.
كما أنها ليست قضية غزة وحدها، أو الضفة الغربية منفردة، أو القدس كرمز.. إنها قضية كل الأرض الفلسطينية المحتلة جميعاً.
ولا يوجد شىء اسمه «الاعتراف الأحادى الجانب».. فلسطين وطن تحت الاحتلال، وهذا الاحتلال غير شرعى ويجب أن يرحل عاجلاً أم أجلاً، وبالتالى لا شىء فى القانون الدولى يلزم الشعب الفلسطينى لكى يقيم دولته على أرضه أن يستأذن سلطة الاحتلال غير الشرعية، كما لا يوجد ما يلزم دول العالم التى تريد الاعتراف بالدولة الفلسطينية أن تحصل مسبقا على موافقة إسرائيل على ذلك، لأن معناه أن سلطة الاحتلال غير الشرعية تنصب نفسها فوق سيادة وإرادة دول العالم.
ترامب فقط هو من يريد أو يتصور ذلك.
إن عشر دول تمثل معظم قارات العالم أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية، فى اجتماع مؤتمر حل الدولتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكثر من نصف هذه الدول أوروبية، حليفة للولايات المتحدة، وتقود الاتحاد الأوروبى مثل فرنسا وبلجيكا والبرتغال ولكسمبورج، فضلا عن بريطانيا صاحبة وعد بلفور الذى نشأت إسرائيل بمقتضاه.
وقد بلغ إجمالى عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية على مستوى العالم ـ بعد إضافة هذه الاعترافات العشرة ـ مائة وتسعاً وأربعين دولة من إجمالى دول العالم الأعضاء فى الأمم المتحدة وعددها مائة واثنتان وتسعون دولة، أى بنسبة تفوق الثمانين بالمائة.. وستتوالى اعترافات بقية الدول..
فهل كل هذه الدول، بشعوبها وقياداتها، وتاريخها، ودورها على الساحة العالمية تقف على الجانب الخطأ.. وترامب ونتنياهو وحدهما هما الصواب وهما الحق؟!
الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. «مكافأة لحماس الإرهابية».. هكذا قال ترامب.
دعونا نمضى مع هذا «اللامنطق» الترامبى، ونسأل الرئيس الأمريكى:
> بماذا كافآت أنت «السلطة الفلسطينية» غير الإرهابية، والتى لم تكن جزءا من طوفان الأقصى الذى لا تتوقف أنت عن تذكير العالم به كأشبع جريمة من وجهة نظرك؟!
وكيف تعاملت مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية والممثل الشرعى للشعب الفلسطينى؟!
ألم تمنعه وزارة خارجيتك من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن يشهد المهرجان العالمى التاريخى للاعتراف بدولته؟!
بل ومنعت وفد السلطة الفلسطينية كله من الحضور، تحديا لإرادة المجتمع الدولي، حتى لا يكون هناك ممثل للسلطة الفلسطينية التى تمثل «نواة» لقيادة الدولة الفلسطينية؟!
الاعتراف بالدولة الفلسطينية تشجيع على استمرار الصراع.. هكذا قال ترامب أمام المجتمع الدولى المحتشد فى الجمعية العامة للأمم المتحدة احتفالاً بعيد المنظمة الدولية، وبالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذا يدعونا لتوجيه سؤال آخر إلى الرئيس الأمريكى:
> وما هو الحل البديل المتصور لديك لعدم التشجيع على استمرار الصراع؟!
هل هو ما يجرى على الأرض فى غزة والضفة من قتل وتدمير وإبادة جماعية وتجويع وتهجير قسرى، وخطط ابتلاع المزيد من الأراضى بالتوسع الاستيطانى.. أى باختصار: إلغاء الشعب الفلسطينى ومحوه من الوجود أو نقل ما يتبقى منه ـ طوعاً أو قسراً ـ إلى خارج أرضه؟!
هل هذا هو ما ينهى الصراع، أم يفجر قنبلته الموقوته فى وجه إقليم الشرق الأوسط كله ويهدد أمن واستقرار العالم؟!
ثم نأتى إلى أغرب تهنئة للأمم المتحدة فى عيدها الثمانين.
«خلال سبعة شهور، أنهيت سبعة حروب.. لم نحصل على أى شىء من الأمم المتحدة، ولم تقف إلى جانبنا لوقف الحروب.. هكذا قال ترامب فى كلمته.
الأمم المتحدة لا تساهم فى بناء السلام.. مجرد كلمات فارغة لا تحل الحروب.. هكذا قال ترامب.
الأمم المتحدة تمول هجوما على «الغرب» من خلال دعمها الهجرة غير النظامية.
لابد من إنهاء الحرب فى غزة فوراً.
كل هذه سطور فى تهنئة الرئيس الأمريكى للأمم المتحدة فى عيدها.
سؤال للرئيس ترامب:
أنهيت ٧ حروب فى ٧ شهور.. حسنا.. كم حربا أشعلتها أمريكا على امتداد العالم وراح ضحيتها الملايين ومازال بعضها لم ينته بعد؟!
سؤال آخر:
كيف لم تحصل على أى شىء من الأمم المتحدة ولم تقف إلى جانبك لوقف الحروب، وأنت الذى أشهرت الفيتو الأمريكى قبل يومين من خطابك لإحباط قرار من الأمم المتحدة نفسها وبأعلى سلطة بها وهى مجلس الأمن، يدعو لوقف الحرب فى غزة رغم إجماع أعضاء المجلس عليه؟!
سؤال ثالث:
إذا كنت تتهم الأمم المتحدة بتمويل «هجوم» على الغرب من خلال دعم الهجرة غير النظامية من وجهة نظرك.. فلماذا تؤيد تهجير الشعب الفلسطينى من أرضه رغم معارضة الأمم المتحدة لذلك؟! وهل التهجير لغير الغرب مشروع.. وللغرب هجوم؟!
ومع ذلك كله، لا يجب أن نندهش من خطاب ترامب ولا من فكره، ولا من تناقضاته وتضليله.
لقد نجحنا ونجح العالم الحر معنا فى تحويل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى «دورة فلسطين».
لقد كان ترامب يعبر عن شعور دفين بالعجز عن مواجهة صعود الحق الفلسطينى وهزيمة الباطل الصهيونى على مستوى العالم وحتى فى عقر داره.
وإسرائيل نتنياهو تواجه حصاراً عالمياً لم يسبق أن واجهت مثله منذ إنشائها قبل ما يقرب من ثمانية عقود.. قبل أسبوعين فقط على حلول ذكرى السابع من أكتوبر.. كابوس نتنياهو.
ترامب الذى يرفض قيام الدولة الفلسطينية، هو من لم يبد رفضا لإعلان نتنياهو عن دولة «إسرائيل الكبرى»، ليس على الأرض الفلسطينية، بل وأراضى عدة دول عربية.
إنها علامة قرب قيام ساعة الاثنين.









