تشهد القضية الفلسطينية فى الآونة الأخيرة تحوّلاً دبلوماسياً لافتاً مع انضمام غالبية دول القارة الأوروبية إلى ركب الاعتراف الرسمى بدولة فلسطين. ففى سابقة تعكس تغيراً عميقاً فى المزاج الدولي، أعلنت ست دول أوروبية جديدة ــ من بينها فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ــ اعترافها بفلسطين من على منبر الأمم المتحدة فى نيويورك، بعد عامين من الحرب المدمرة فى قطاع غزة. هذه الخطوة، التى تضاف إلى سلسلة من الاعترافات المتتالية، تؤكد أن 80 ٪ من الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة ــ أى ما لا يقل عن 151 دولة من أصل 193 ــ باتت تعترف بدولة فلسطين بشكل أو بآخر.
وتوالت الاعترافات على دفعات: الأولى أواخر الثمانينيات، ثم موجة ثانية مطلع العقد الثانى من الألفية، وصولاً إلى دفعة جديدة أعقبت هجوم السابع من أكتوبر 2023، إذ دفعت الحرب على غزة 13 بلداً آخر إلى الانضمام إلى القائمة. واليوم، تضم هذه القائمة دولاً كبرى مثل روسيا والصين والهند، إضافة إلى كل الدول العربية تقريباً، ومعظم دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن حلفاء جدد من أوروبا الغربية.
رغم هذا الزخم، لا تزال هناك 39 دولة ترفض الاعتراف بفلسطين، فى مقدمتها الولايات المتحدة. وتعتبر أوروبا القارة الأكثر انقساماً، إذ مازالت دول مثل ألمانيا وإيطاليا والمجر وتشيكيا تتحفظ على الاعتراف.
وتوالت ردود الفعل الدولية المرحبة بالاعترافات، أكد المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة أن الاعتراف الدولى الأخير بدولة فلسطين يعد إنجازاً هاماً وتغيراً إيجابياً فى الموقف العالمي، وبالأخص على مستوى الدول الغربية. وقال أبو ردينة «إن القيادة الفلسطينية تسعى مع الدول التى اعترفت بالحقوق الفلسطينية بتطوير العلاقات الثنائية والتنسيق معها فى الجهود الدولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية».
كما رحب رئيس وزراء سلوفينيا روبرت جولوب، بقرار مجموعة من الدول الاعتراف بفلسطين.. مؤكداً «أنه لن يكون هناك سلام فى الشرق الأوسط بدون حل الدولتين، مهما بدا بعيداً وخيالياً فى ظل الظروف الحالية. وقال جولوب «يسعدنا الاعتراف بدولة فلسطين، والذى يأتى عقب قرار سلوفينيا العام الماضي، وكانت رغبتنا التى دافعنا عنها بنشاط «.. مشيراً إلى أن سلوفينيا ستواصل بلا كلل دعوة المزيد من الدول للاعتراف بفلسطين.
يصف خبراء القانون الدولى المسألة بأنها واحدة من أعقد القضايا. حيث ان تلك الموجة تخضع لمعايير سياسية أكثر من كونها قانونية. ورغم ذلك، فإن الاعتراف يكتسب أهمية رمزية هائلة، لأنه يضع فلسطين على قدم المساواة مع إسرائيل أمام القانون الدولي، حتى وإن لم يغيّر من واقع الاحتلال القائم.
وفى مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، كتب المحامى البريطانى الفرنسى فيليب ساندز أن الاعتراف قد يبدو للبعض مجرد خطوة رمزية، لكنه فى الحقيقة «يغيّر قواعد اللعبة» لأنه يمنح الفلسطينيين شرعية قانونية وأدوات جديدة للمطالبة بحقوقهم، ويعيد صياغة ميزان القوى فى المؤسسات الدولية.
التحولات الأوروبية وضعت إدارة الرئيس الأمريكى ترامب أمام اختبار صعب. فقد أفادت صحيفة تايمز أوف إسرائيل أن واشنطن وجّهت تحذيراً لإسرائيل من الإقدام على خطوة ضم الضفة الغربية كرد فعل على موجة الاعترافات، معتبرة أن مثل هذه الخطوة قد تعقّد الوضع أكثر وتحرج الولايات المتحدة أمام حلفائها.
لكن داخل واشنطن نفسها، لم يمرّ الأمر من دون سجال. الجمهوريون سارعوا إلى التصعيد، ملوّحين بمعاقبة حلفاء أمريكا الذين أقدموا على الاعتراف بفلسطين. أكثر من 20 نائباً جمهورياً، وجّهوا رسائل مباشرة إلى قادة بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا، محذّرين من أن الاعتراف سيضع هذه الدول فى مواجهة المصالح الأمريكية. بعضهم استخدم لغة أكثر قسوة، مثل السيناتور ليندسى جراهام الذى وصف الاعتراف بأنه «مكافأة لأكبر مذبحة لليهود منذ الحرب العالمية الثانية».
دبلوماسيون أمريكيون دخلوا على خط السجال أيضاً. فقد كتب السفير الأمريكى لدى إسرائيل مايك هاكابى أن «حماس تحتفل بهذا القرار»، فيما اعتبر السفير فى فرنسا تشارلز كوشنر أن الخطوة «تعرّض الرهائن للخطر». ومع ذلك، بدا البيت الأبيض أكثر حذراً، إذ أكدت المتحدثة كارولين ليفيت أن إدارة ترامب «تركز على الدبلوماسية الجدية لا على الإيماءات الاستعراضية».
عملياً، لا يغيّر الاعتراف شيئاً فى السيطرة الإسرائيلية على الأرض، لكنه يمنح الفلسطينيين أوراق ضغط جديدة على المستوى الدولي. الاعتراف يتيح لهم التقدم بطلبات انضمام إلى منظمات ومعاهدات دولية، ويقوّى موقفهم فى أى مفاوضات مستقبلية. كما يمنحهم فرصة لمقاضاة إسرائيل أمام محاكم دولية استناداً إلى وضع «الدولة» المعترف بها.
فى المقابل، تواصل إسرائيل رفضها القاطع لفكرة الدولة الفلسطينية. البرلمان الإسرائيلى صوّت العام الماضى ضد قيامها، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يعلن مراراً أن الاستقلال الفلسطينى «خطر وجودي». صحيفة نيويورك تايمز رأت أن إسرائيل تبذل قصارى جهدها لإفشال حل الدولتين عبر مسارين: الحرب المدمرة فى غزة، والتوسع المتسارع فى المستوطنات بالضفة الغربية. وهى خطوات تجعل أفق الدولة الفلسطينية أكثر بُعداً من أى وقت مضي.
لكن ما بين الضغوط الأمريكية، والتشدّد الإسرائيلي، والانقسام الأوروبي، تبقى معركة الاعترافات جزءاً من صراع أوسع على هوية فلسطين ومستقبلها. صراع تتداخل فيه الاعتبارات الرمزية مع الحسابات الجيوسياسية، وتتشابك فيه المواقف بين مؤيد يرى الاعتراف خطوة للعدالة، ومعارض يراه مكافأة للعنف.
وفى النهاية، فإن موجة الاعترافات المتسارعة قد لا تُغيّر خريطة الاحتلال على الأرض، لكنها تغيّر بلا شك خريطة التحالفات فى العالم، وتضع إسرائيل والولايات المتحدة أمام معضلة متزايدة فى إدارة الملف الفلسطيني، بينما يتمسّك الفلسطينيون بالأمل فى أن تتحول هذه الشرعية الدولية المتراكمة إلى واقع سياسى يفضى إلى الدولة التى نادوا بها منذ عقود.