البيئة الخضراء النقية لم تعد ترفا، فالتغيرات المناخية تضرب العالم أجمع، والجفاف يزحف على مساحات جديدة من الأرض، ودرجات الحرارة تتزايد، لتصبح الأشجار صمام الأمان الحقيقي. ومن هنا تنطلق مبادرة مصرية طموح لزراعة 100 مليون شجرة بحلول عام 2029، أى شجرة لكل مواطن، حلم أخضر يتجاوز الرمزية ليصبح مشروعا قوميا متكاملا.
هذه المبادرة تهدف إلى مواجهة التحديات البيئية، تحسين جودة الهواء، تقليل الانبعاثات الكربونية، وتوسيع الرقعة الخضراء فى المدن والقري. كما تحمل بعدا اقتصاديا مهما يتمثل فى توفير الأخشاب، وإنتاج محاصيل إستراتيجية، وفتح مجالات عمل جديدة للشباب.
ولعلنا إذا نظرنا إلى تجارب الدول الأخرى نجد ما يضيء الطريق. فباكستان أطلقت مشروع «تسونامى المليار شجرة»، وإثيوبيا أعلنت حملة لزراعة مليارات الأشجار. ورغم نجاحهم فى غرس أعداد كبيرة منها، إلا أن نسبة غالية لم تعش طويلا، إما بسبب سوء الاختيار أو ضعف المتابعة. والنتيجة أن الأرقام المعلنة شيء، والواقع شيء آخر. الدرس الذى ينبغى أن نستوعبه أن المسألة ليست كم شجرة زرعنا؟ بل كم منها بقى ونما وأثمر؟
المبادرة المصرية تنفذها وزارات التنمية المحلية والإسكان والبيئة . والتقارير الصادرة حتى الآن تشير إلى ضرورة بذل جهد أكبر، وأن يكون التنسيق بين الجهات الثلاث أكثر فاعلية. فالمبادرة ليست مجرد أرقام، وإنما التزام وطنى يحتاج إلى مشاركة الجميع: حكومة، مجتمع مدني، قطاع خاص، وأفراد.
التجارب العالمية أثبتت أن زراعة الشوارع تحتاج إلى أشجار ظل وأشجار مزهرة تضفى لمسة من الجمال والبهجة. نرى ذلك فى طوكيو وكيوتو حيث تتحول شوارع المدينتين إلى لوحات وردية مع تفتح أزهار الكرز «الساكورا» فى الربيع، أو فى مدينة بريتوريا بجنوب إفريقيا فى شهر اكتوبر حين يزدان أكثر من 70 ألف شجرة جاكارندا بنفسجية اللون فتغطى المدينة بسجاد طبيعى ساحر.
أما تجربة تشجير الطرق بالنخيل فقد كشفت عن سلبيات واضحة: التكلفة العالية، صعوبة النقل، عدم توفير الظلال أو الزهور، واحتياجها الدائم لرعاية دقيقة، وإلا تحولت إلى منظر غير جمالي. المثال الأوضح هو الطريق الدولى الساحلي، حيث بدا أن النخيل لم يكن الخيار الأمثل فالشوارع تحتاج الى أشجار مظللة ومزهرة مثل الجاكارندا والبونسيانا والكاسيا وكلها موجودة لدينا ومناخنا مناسب لها أن تنمو وتزهر.
وخبراء وزارة الزراعة يعتقدون أن الكثير من الأشجار ذات العائد الاقتصادى مثل الزيتون، الجوجوبا، الخروب، المورينجا، الأكاسيا، الصمغ العربي، تصلح للنمو فى المناطق الصحراوية والمستصلحة وسيناء. فهذه الأنواع تتحمل المناخ ولها عائد اقتصادى وفير وتشجع على الاستثمار الزراعي.
الجانب الأهم فى أى مبادرة هو المتابعة والرعاية للأشجار المنزرعة. فلا قيمة لشجرة تغرس اليوم وتذبل غدا. النظم الحكومية فى كل بلدان العالم غالبا لا توفر الفكر والأدوات اللوجستية للمتابعة.. ومن هنا يبرز الدور المجتمعي. والذى يجب أن نفكر جديا فى مشاركته فى هذه المبادرة القومية.. لاسيما الشباب والذى دائما ما يكون عنصرا إيجابيا فى التأثير المجتمعي.. ولعلنا نطلق مبادرة قومية باسم «الجمعة الخضراء» حيث يشارك المواطنون من مختلف الأعمار والفئات فى زراعة الأشجار فى الشوارع والحدائق والقرى والنجوع والقيام بمتابعة نموها.. وربما يتبنى كل شاب مجموعة من الأشجار نطلق عليها اسمه. ومن المؤكد أن هذه المشاركة تجعل المواطن يشعر وكأنه شريك حقيقى فى المبادرة.
إن زراعة 100 مليون شجرة ليست مجرد مشروع بيئي، بل ثورة خضراء تعيد صياغة علاقتنا بالطبيعة، وتمنح الأمل لأجيال قادمة بأن مصر قادرة على أن تكون أكثر جمالا وأغنى موارد وأكثر توازنا مع بيئتها.









