ألف باء تجديد الخطاب الدينى التركيز على فقه الأولويات وكذا تسليط الضوء على مقاصد الشريعة عن طريق أهل الذكر. وفى الوقت الذى يعانى فيه الناس من أزمات اقتصادية طاحنة يخرج علينا عدد غير قليل من المشايخ بمسمياتهم المختلفة وجل همهم حث الناس على المسارعة فى أداء الحج والعمرة وهذا شيء جميل لمن استطاع إليه سبيلا لكن السؤال الذى يشغلنى أين فقه الأولويات فى حديث مشايخنا؟ وهل صحيح أن الحج والعمرة مقدمان على كثير من الفرائض الغائبة. قال لى صديقى إن والده ميسور الحال يحرص كل عام على زيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج، ظناً منه أن أكثر الناس أداء للفريضة أقربهم من الله فى الدنيا والآخرة. فالرجل لم ينل من العلم إلا أدناه، وكانت كلماته مفتاحاً لحوار امتد لأكثر من ساعتين وانتهينا فيه إلى أن الإسلام الذى نعرفه يرى أن من أولوياته البحث فى الضروريات وهو ما تعارف عليه الناس أخيرًا بفقه الأولويات. فأبواب الخير التى يثاب المرء عليها لا تعد ولا تحصي، وما يقرب العبد من ربه لا يقف عند حدود الفرائض الوارد بها كثير من النصوص فى القرآن والسنة، فهناك من يظنون أن تعمير المساجد وتشييدها من أعظم القربات ترجمة لقول الله تعالي: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ» «التوبة:18». ولا يعلمون أن هناك من الأولويات ما لا يقل بحال عن ثواب الإنفاق فى بناء المساجد، وربما يدر عائداً على صاحبه فى الدنيا والآخرة، لا سيما أن أرض الله واسعة، ورسولنا – صلى الله عليه وسلم – هو القائل: «وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً». ومن ثم فبمقدور كل من يريد الصلاة أداءها فى أى مكان دون الحاجة إلى ما نراه من تبذير وإسراف فى كثير من عمارات المساجد. ومراتب الخير فى الإسلام لا تحتاج إلى بيان، والنبى – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». ومن ثم فقصر الإنفاق على جانب معين وإهمال جوانب أخرى قد تكون أولى بالإنفاق منه يعد من قبيل مخالفة مقاصد الشريعة.
ولذلك ينبغى أن نُذكر هنا بما جاء على لسان الصحابى الجليل عبدالله بن مسعود رضى الله عنه عندما قال: «يكثر الناس فى آخر الزمان من الحج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم فى الرزق، فيهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، يضرب فى الأرض وجاره إلى جنبه مأسور لا يواسيه». وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فالمسلمون هذه الأيام يعانون ويلات الأزمات والأمراض ما ظهر منها وما بطن، ولا يجدون من يشد أزرهم ويخفف عنهم آلامهم، فهناك طالب العلم الفقير ذو الحاجة الذى لا يجد من يؤازره والنتيجة الحتمية فشل ذريع لمستقبله. وهناك المساكين والفقراء الذين تعرفهم بسيماهم وهم لا يسألون الناس إلحافاً ولا يجدون من يسد جوعتهم ويستر عورتهم، وتجاهلهم يعنى فتح الطريق أمامهم إلى عالم الجريمة والرذيلة. وهناك الأرامل والثكالي، مات عائلهم ومن كان ينفق عليهم ولم يعد لهم فى هذه الحياة يد حانية تمسح عنهم آهات الدهر وآلامه. فكل هؤلاء أولى عند الله عز وجل من تكرار الحج والعمرة بلا داع.