حق النقض الأمريكى.. درع حماية لإسرائيل .. أجهض عشرات القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية

منذ أن خرج مجلس الأمن إلى النور عقب الحرب العالمية الثانية، كان الهدف المعلن أن يكون حارس السلام والعدالة فى العالم. غير أن المجلس الذى بُنى على توازنات ما بعد الحرب لم يعد قادرًا على مواكبة واقع القرن الـ21، فقد تحوّل بمرور الوقت إلى ساحةٍ تحتكر فيها القوى الخمس الكبرى – الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا – القرار الدولى عبر حق النقض «الفيتو»، بينما تُترك باقى الدول، وعلى رأسها دول الجنوب والعالم النامي، خارج دائرة التأثير.
خلال العقود الماضية ظهرت فى مجلس الأمن مشاكل كثيرة جعلت مطالب اصلاحه تتزايد، لكن الأحداث خلال العامين الماضيين أكدت أنه لا بديل عن هذا الاصلاح لمجلس تحول بفعل حق الفيتو إلى «رهينة» لسيطرة الكبار، فالولايات المتحدة تعتبرحق النقض الممنوح لها أداة لحماية إسرائيل دونا عن بقية العالم، وتسعى دائما لضمان عدم صدور أى قرار دولى يُقيد حرية إسرائيل العسكرية أو السياسية، فكلما كان هناك مشروع قرار لإنصاف القضية الفلسطينية مطروح على طاولة المناقشات يرفع الأعضاء مجتمعين أيديهم بالموافقة، بينما ترفع واشنطن يدها منفردة لتنزل بها صفعا على وجه العالم ومجتمعه الدولى وقوانينه وأعرافه. هذا الدعم يُضعف مصداقية مجلس الأمن ويجعله فى نظر الكثير من الشعوب مجرد أداة بيد القوى الكبري.
مجلس الأمن يضم 15 عضوًا (5 دائمين و10 غير دائمين)، منذ 1945 لم يُجرَ سوى تعديل واحد جوهرى عام 1965، حيث ارتفع عدد المقاعد غير الدائمة من 6 إلى 10. ومنذ ذلك الحين، تعثرت جميع مشاريع الإصلاح بسبب تضارب المصالح بين الكتل الدولية.
فى قلب هذا المشهد، تبرز مصر كصوتٍ قوى ومؤثر، ترفع راية الإصلاح وتدعو إلى إعادة هيكلة المجلس بما يحقق عدالة التمثيل ويُنهى ازدواجية المعايير التى أفقدت المنظمة الأممية مصداقيتها. فبالنسبة لمصر، لم يعد من المقبول أن تُحجب القرارات المتعلقة بوقف إطلاق النار أو حماية المدنيين بفيتو يُستخدم لخدمة مصالح سياسية ضيقة، بينما تظل الأزمات الإنسانية متفاقمة أمام أعين العالم.
تستند القاهرة فى مطالبها المشروعة إلى حقائق صارخة: فقارة إفريقيا، التى تضم 54 دولة وتشكل ما يقرب من ثلث عضوية الأمم المتحدة، لا تزال بلا مقعد دائم واحد فى المجلس. بينما تظل الدول الخمس الكبرى محتفظة بامتيازاتها التى وُضعت قبل ثمانية عقود فى عالم مختلف تمامًا عن عالم اليوم.
حق النقض نفسه أصبح أداة تعطيل بدلًا من أن يكون وسيلة توازن. فقد استُخدم أكثر من 320 مرة منذ تأسيس الأمم المتحدة، وأغلبها لعرقلة قرارات إنسانية أو سياسية عاجلة. وهو ما تعتبره مصر «عطبًا جوهريًا» لا بد من إصلاحه، عبر إلغاء الفيتو أو تقييد استخدامه، أو على الأقل منحه للدول التى ستنضم إلى العضوية الدائمة.
صوت مصر
الرئيس عبدالفتاح السيسى جعل من الإصلاح الأممى محورًا لخطاباته. ففى الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، شدد، خلال كلمته فى يونيو الماضي، على أن المنظمة الأممية لا يمكنها مواكبة التحديات الأمنية والإنسانية والمناخية إلا عبر إصلاح شامل يعيد الثقة فى آلياتها ويُنهى المعايير المزدوجة التى أفقدت الشعوب الأمل فى عدالة دولية.
فى هذه الكلمة، أكد أن أى إصلاح لا بد أن يُحافظ على القانون الدولى ويتجنّب المعايير المزدوجة. .
وخلال اجتماع مع رئيس سيراليون يوليوس مادا بيو فى مارس الماضي، جدد الرئيس السيسى التأكيد على أن إفريقيا تستحق مقعدًا دائمًا فى مجلس الأمن، مؤكدًا التزام مصر بالموقف الإفريقى الموحد بقيادة اللجنة الأفريقية العشر (سى 10 ).
وفى سبتمبر الجاري، صرّح الرئيس السيسى بأن مجلس الأمن بات «مثالًا» على التراجع فى أداء المنظومة الدولية، فى إشارة إلى ضعف قدرة المجلس على اتخاذ قرارات ملزمة أو تنفيذية، خصوصًا فى الأزمات مثل القضية الفلسطينية وغيرها.
الموقف المصرى يعبر عنه أيضا وزير الخارجية بدر عبد العاطى الذى لم يترك مناسبة دولية إلا وأكد فيها أن النظام الدولى بحاجة إلى مراجعة شاملة، رافضا «احتكار» حق النقض . ففى منتدى «بلد الاستراتيجي» بسلوفينيا الذى عقد بداية الشهر الجاري، قال بوضوح: «تقييد الفيتو بخمس دول لم يعد مقبولًا. يجب أن تُمنح الدول الجديدة العضوية الدائمة نفس الحقوق، أو يُلغى هذا الحق من الجميع».
بدوره، أشار المندوب الدائم لمصر لدى الأمم المتحدة، السفير أسامة عبد الخالق، فى الجلسة الطارئة للجمعية العامة (يونيو 2025) إلى أن الفيتو بات معيقًا لأى تحرك جماعي، مؤكدًا أن التاريخ سيسجل أن كثيرًا من القرارات الإنسانية أُجهضت بسبب هذه الآلية غير العادلة.
كان سامح شكرى وزير الخارجية الأسبق، قد دعا مرارًا الدول الإفريقية إلى التمسك بمبادئ «اتفاقية ايزلويني» و «اعلان سرت» اللتين تطالبان بمقعدين دائمين للقارة الإفريقية فى مجلس الأمن، مع مزيد من المقاعد غير الدائمة التى تُختار من داخل الاتحاد الأفريقي، مؤكدًا أن التاريخ سيسجل أن كثيرًا من القرارات الإنسانية أُجهضت بسبب هذه الآلية غير العادلة.
دفعت مصر فى أكثر من مناسبة باتجاه توحيد الموقف العربى داخل الأمم المتحدة، خصوصًا فى الملفات الفلسطينية. ففى مارس الماضي، تقدمت القاهرة بمقترح أمام مجلس الأمن لإقامة وجود دولى فى غزة والضفة الغربية، بهدف حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات. وحين يُستخدم الفيتو لإسقاط قرارات متعلقة بفلسطين، لا تتردد مصر فى تحويل الملف إلى الجمعية العامة حيث يتساوى الجميع، فتُنتزع القرارات رغمًا عن إرادة الكبار.
مصر.. تخاطب الضمير الدولي
لكن طريق الإصلاح ليس مفروشًا بالورود. فالتعديل يتطلب موافقة الدول الخمس نفسها، أى تلك المستفيدة من الوضع القائم. كما أن تعديل ميثاق الأمم المتحدة عملية معقدة، تحتاج موافقة ثلثى الدول الأعضاء، إضافة إلى الدول الدائمة. هنا تتبدى العقبة الكبري: من يملك الامتيازات هل يتنازل عنها طوعًا؟
ترى القاهرة أن الحل يبدأ بخطوات عملية، أولها، وضع قيود واضحة على استخدام الفيتو، خاصة فى القضايا الإنسانية، وثانيها، تعزيز دور الجمعية العامة كبديل عندما يُشلّ المجلس بالفيتو، بالاضافة الى بناء تحالفات من الجنوب العالمى (إفريقيا، آسيا، أمريكا اللاتينية) لدفع إصلاحات جدية.
من موقعها التاريخى كدولة مؤسسة لحركة عدم الانحياز وركيزة أساسية فى الاتحاد الإفريقي، تُدرك مصر أن صوتها يتجاوز حدودها الوطنية. فهى لا تدافع فقط عن مصلحتها، بل عن مصلحة شعوب بأكملها ترى أن النظام الدولى بتركيبته الحالية لا يمثلها.
إنها معركة طويلة الأمد، لكن القاهرة تؤمن أن التاريخ لا يقف عند حدود الفيتو ولا عند إرادة القوى الخمس. الإصلاح، عاجلًا أم آجلًا، سيأتي. ومصر تُصرّ على أن تكون فى طليعة هذا المسار، حاملة راية العدالة الدولية، ومدافعة عن حق الشعوب فى أن تكون شريكة لا مجرد تابع فى رسم ملامح النظام العالمى الجديد.
إصلاح مجلس الأمن مطروح منذ عقود، فهناك دول ومجموعات إقليمية كبيرة تبنّت القضية، ولكل منها رؤيته ومطالبه الخاصة.
ألمانيا، اليابان، الهند، البرازيل أو ما تسمى (مجموعة الأربع)، تقدمت بمقترحات متكررة منذ منتصف التسعينيات لزيادة عدد الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، مستندة الى انها قوى اقتصادية وسياسية كبرى تساهم ماليًا وعسكريًا فى الأمم المتحدة لكنها محرومة من امتياز العضوية الدائمة. مثال على ذلك أطلقت هذه المجموعة فى 2005 مشروعًا لإضافة 6 مقاعد دائمة جديدة (من ضمنها أربعة لها)، لكن المعارضة الشديدة من بعض الدول (مثل باكستان ضد الهند، وإيطاليا ضد ألمانيا) عرقلت المشروع.
الموقف الأفريقى لم يكن بعيدا فقد تبنى الاتحاد الإفريقى رسميًا ما يُعرف بـ»إجماع إزولويني» عام 2005 والذى يطالب بمقعدين دائمين للقارة الإفريقية مع كامل حقوق العضوية بما فيها الفيتو كما يطالب بخمسة مقاعد غير دائمة إضافية للقارة، وكان مبرر الاتحاد أن إفريقيا، رغم كونها أكبر كتلة تصويتية (54 دولة) وأكثر القارات تأثرًا بالصراعات، تظل بلا صوت دائم فى مجلس الأمن.
مبادرة أخرى لاصلاح مجلس الأمن انطلقت بقيادة ايطاليا وباكستان تحت تحالف (الاتحاد من أجل التوافق). كما ان هناك مبادرة عربية ارتكزت على تمثيل عربى دائم، نظرًا لحجم القضايا العربية المدرجة على أجندة المجلس مثل (القضية الفلسطينية، العراق، سوريا، ليبيا…) وكانت مصر دائمًا فى واجهة هذا المطلب تدعمها دول عربية عدة.
الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا: تدعم من حيث المبدأ توسيع المجلس، لكن بشكل انتقائى وحذر أما الولايات المتحدة مثلاً فقد أعلنت دعمها لليابان والهند كأعضاء دائمين، لكن لم تدفع بخطوات عملية.
فيتو دائم ضد فلسطين
تظل القضية الفلسطينية نموذج يفضح كوارث حق الفيتو فمنذ زمن طويل، يُستخدم حق النقض «الفيتو» فى مجلس الأمن الدولى كأداة قادرة على إلغاء مشاريع قرارات حتى لو حازت موافقة الأغلبية، مما يجعلها أحيانًا السد الأخير أمام قرارات داعمة للفلسطينيين أو ضاغطة على إسرائيل. هذا الاستخدام المتكرر يرفع أسئلة كثيرة حول مدى عدالة النظام الدولى وقدرته على حماية حقوق الإنسان، خصوصًا فى الوضع الفلسطيني.
تعتبر واشنطن أمن إسرائيل جزءًا من استراتيجيتها فى الشرق الأوسط، وهو ما ينعكس على مواقفها فى مجلس الأمن. مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل عبر حق النقض فى مجلس الأمن تُعدّ واحدة من أبرز صور الدعم السياسى والدبلوماسى التى حظيت بها إسرائيل منذ تأسيسها وحتى اليوم، حيث استخدمت واشنطن هذا السلاح مرارًا لتعطيل قرارات دولية تُدين الاحتلال أو تدعو لإنهاء ممارساته ضد الفلسطينيين والعرب.
منذ عام 1972 وحتى 2023، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو أكثر من 45 مرة لصالح إسرائيل، أى ما يقارب نصف استخداماتها للفيتو فى مجلس الأمن. أبرز هذه المرات كانت لإفشال قرارات تتعلق بوقف الاستيطان فى الضفة الغربية والقدس الشرقية وإدانة العدوان الإسرائيلى على لبنان (خاصة فى 1982 و2006) وحماية المدنيين الفلسطينيين أثناء الاجتياحات والحروب على غزة والاعتراف بالدولة الفلسطينية أو منحها العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة.
أمثلة بارزة على سبيل المثال لا الحصر، فيتو 1982 ضد مشروع قرار يطالب بوقف فورى للعمليات العسكرية الإسرائيلية فى لبنان، وفيتو 1997 ضد مشروع قرار يعتبر الاستيطان فى القدس الشرقية غير قانونى ويطالب بوقفه، وفيتو 2011 ضد مشروع قرار عربى مدعوم دوليًا يُدين الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية ويطالب بوقفه فورًا، وفيتو 2017 ضد مشروع قرار يرفض اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفيتو 2023 ضد مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار الإنسانى فى غزة أثناء الحرب الأخيرة، رغم التأييد الساحق من بقية أعضاء المجلس وخلال العامين الماضيين فقط استخدمت واشنطن حق الفيتو 6 مرات لحماية إسرائيل ومنع وقف إطلاق النار.
كل هذه القرارات كان لها تداعيات سلبية منها، تعطيل العدالة الدولية، وهو ما حرم الفلسطينيين من قرارات ملزمة كانت ستضع قيودًا على الاحتلال، الأمر الذى ساعد على تشجيع إسرائيل على الاستمرار فى انتهاكتها المجنونة فى ظل غياب المحاسبة الدولية ما منحها غطاءً سياسيًا لمواصلة الاستيطان والحروب.
أثار هذا التحيز الواضح غضبا دوليا، حيث رأت كثير من الدول الأوروبية والنامية أن الفيتو الأمريكى يتناقض مع المبادئ المعلنة لحقوق الإنسان والقانون الدولي. وهو ما زاد من الضغوط لإصلاح مجلس الأمن حيث يُنظر إلى الفيتو باعتباره أداة غير عادلة تكرس الهيمنة وتمنع إنصاف الشعوب المستضعفة.
سجل قرارات مجلس الأمن التى كانت فى مصلحة فلسطين وأُجهضت بالفيتو، ليس سجّلًا رمزيًا فقط، بل تاريخ من الفرص الضائعة على صعيد العدالة الدولية وحقوق الإنسان. كل مشروع قرار أُجهض هو شهادة بأن هيكل «الفيتو» له أثر مباشر على مصائر الشعوب. ومع أن بعض هذه القرارات تحدث فى أوقات أزمات كبيرة وتثير غضبًا واسعًا، إلا أن المعركة من أجل إصلاح هذا الحاجز – الفيتو – لا تزال تحتدم، خصوصًا من دول عربية وإفريقية ونامية تعتبر أن النظام الأممى لا يعكس واقع العالم اليوم.