المستقبل الآمن يبدأ من تثبيت قيم التعايش.. ودعم الحق الفلسطينى يبقى عنوانًا لصراع الحق مع الباطل
في عالمٍ مضطرب تتنازع فيه الأزمات، وتختلط فيه الحقائق بالدعايات، وتتصارع فيه القوى بين من يسعى للعدالة ومن يتشبث بالهيمنة؛ يبقى صوت الرصد الموضوعي والتحليل الهادئ ضرورة لا غنى عنها، وهنا يبرز دور مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، الذي يواصل عبر تقاريره الأسبوعية رسم خريطة دقيقة لأبرز الأحداث الدولية، محذرًا من مخاطرها ومبشرًا في الوقت ذاته ببوادر الوعي العالمي.
التقرير الأخير، الصادر في الفترة من 13 إلى 20 سبتمبر 2025، حمل بين طياته ثلاثة محاور مترابطة: القضية الفلسطينية بما تشهده من تحولات جذرية على الساحة الدولية، وخارطة التطرف في العالم التي تكشف تمدده عبر القارات، وأحوال المسلمين وتصاعد الإسلاموفوبيا في الشرق والغرب على السواء.
أولًا: القضية الفلسطينية
احتلت القضية الفلسطينية صدارة التقرير، إذ رصد المرصد التحولات الجذرية في مواقف الرأي العام العالمي، وملامح عزلة دولية متزايدة لكيان الاحتلال نتيجة ممارساته العدوانية في غزة والضفة.
في ألمانيا، خرجت تظاهرات حاشدة ببرلين رفضًا للإبادة في غزة، ودعوة لوقف تصدير الأسلحة، بينما أكدت الأمم المتحدة عبر وكالة الأونروا أن المساعدات باتت تحت سيطرة “عصابات ومرتزقة” في ظل حصار خانق أدى إلى مقتل المئات جوعًا. وأشار التقرير الأممي إلى ارتكاب إسرائيل جرائم تطهير عرقي، في وقت صوّتت فيه الأمم المتحدة لصالح حل الدولتين، ما عمّق عزلة الكيان.
أما في إسبانيا، فقد تحولت موجة التضامن إلى فعل سياسي واقتصادي مؤثر، حيث ألغت الحكومة صفقة تسليح ضخمة مع إسرائيل، وفرضت حظرًا على تصدير السلاح إليها، كما لوّحت بمقاطعة كأس العالم 2026 حال تأهل منتخب الاحتلال. ورأى المرصد أن هذه المواقف تعكس إدراكًا متزايدًا لفاعلية المقاطعة في الضغط على الكيان.
وفي فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ، تصاعد الجدل حول الاعتراف بدولة فلسطين، ورغم المعارضة اليمينية، فإن توجه عدة حكومات أوروبية للاعتراف الرسمي يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في السياسات الغربية تجاه الصراع.
كما لفت التقرير إلى تكتيكات الاحتلال في غزة، التي تقوم على تهجير السكان، وتدمير البنية التحتية، ومحو الهوية التاريخية عبر استهداف المواقع الدينية والتراثية، وهو ما وصفه المرصد بأنه سياسة “تطهير عرقي ممنهج”
كما أبرز التقرير الانقسام الداخلي العميق في إسرائيل، حيث وُصفت الحرب بأنها “بلا هدف”، مع تزايد الضغوط من عائلات الأسرى والجنود، وغياب رؤية لما بعد العمليات العسكرية.
إقليميًا، رصد التقرير التداعيات، خاصة الهجوم الصهيوني على الدوحة الذي اعتبرته قطر “إرهاب دولة” وتهديدًا مباشرًا لجهود الوساطة. كما تناول المزاعم الإسرائيلية عن الوضع في سيناء، مؤكدًا أن التعاون المصري – الإسرائيلي قائم على التوازن الاستراتيجي واحترام الاتفاقيات، وأن محاولات الاحتلال التشويش على هذا الواقع تأتي في إطار أزماته الداخلية.
ورأى المرصد أن المحصلة النهائية تكشف مأزق الاحتلال: عزلة دولية، وتململ داخلي، وتورط في جرائم إبادة جماعية، بما يؤكد أن المقاومة الفلسطينية تمثل حقًا مشروعًا يقرّه القانون الدولي.
كما أشار التقرير إلى استئناف مصر وتركيا مناورات (بحر الصداقة) العسكرية في شرق المتوسط بعد انقطاع 13 عامًا، مباشرة عقب القمة العربية الطارئة في الدوحة التي ناقشت الاعتداءات الصهيونية. ورأى المرصد أن هذه المناورة تعكس قوة العلاقات بين البلدين، لاسيما في ظل توافقهما على دعم فلسطين ورفض الاعتداءات الصهيونية.
ثانيًا: خارطة التطرف في العالم
الإرهاب لم يعد حكرًا على منطقة واحدة، بل بات ظاهرة عابرة للقارات، ففي السودان، استمر القصف والمعارك بمدينة الفاشر، ما فاقم معاناة المدنيين، حيث يواجه 25 مليون شخص خطر الجوع وسط نزوح جماعي بسبب الفيضانات. ودعا المرصد إلى وقف شامل للأعمال العدائية ورفض التدخلات الخارجية.
وثّقت تقارير حقوقية في النيجرمقتل أكثر من 127 مدنيًا في هجمات شنها تنظيم “داعش – ولاية الساحل”. أما مالي، فقد شهدت منطقة كايس هجومًا أدى إلى تدمير قافلة وقود ضخمة، بينما تعرّضت بوركينا فاسو لهجوم على قاعدة عسكرية أسفر عن مقتل 15 جنديًا. وفي موزمبيق، تواصلت اعتداءات جماعة “الشباب” المبايعة لداعش، مستهدفة مدنًا ساحلية ومشروعات اقتصادية كبرى.
وحذّرت الأجهزة الأمنية في ألمانيامن تشكّل “جبهة مشتركة” بين متطرفين من اليسار واليمين والإسلامويين، مع تصاعد محاولات استقطاب الأطفال، ما دفع المرصد للتحذير من خطورة هذه الظاهرة.
وفي بريطانيا، خرجت واحدة من أكبر مسيرات اليمين المتطرف بقيادة تومي روبنسون بمشاركة مئة ألف شخص. أما في الولايات المتحدة، فقد أعلن الرئيس السابق دونالد ترامب عزمه إدراج حركة “أنتيفا” اليسارية المتطرفة على قوائم الإرهاب، وتزايدت التحقيقات الأمنية في إسبانيامع أفراد وجماعات متهمة بالإرهاب الإلكتروني، فيما واصل حزب “فوكس” اليميني المتطرف استغلال ملف الهجرة للتحريض، مهددًا الوحدة الوطنية، واستمرت الهجمات الإرهابية في باكستان على قوات الأمن، ما يعكس هشاشة الوضع الأمني.
وفي فرنسا، برزت تحديات متعددة، من بينها تطرف القاصرين عبر الإنترنت، ومحاكمات مرتبطة بالإرهاب، واستمرار محاولات “داعش” استغلال الأزمات العالمية لاستقطاب مقاتلين جدد
المشهد العالمي بات شديد التعقيد، حيث تتداخل الحروب الأهلية مع الإرهاب العابر للحدود، ويُضاف إلى ذلك التهديد السيبراني المتنامي، ما يستلزم استراتيجية شاملة تقوم على الأمن والتنمية معًا.
ثالثًا: أحوال المسلمين والإسلاموفوبيا
تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب والشرق على حد سواء، تهدد تداعياتها السلم المجتمعي، فقد أثار مسلسل تلفزيوني في ألمانياغضبًا واسعًا بعد تصوير طالبة محجبة في مشهد مسيء، بما يمثل انتهاكا لحرية العقيدة، وتصاعد خطاب الكراهية ضد المسلمين في الهندعبر مقاطع دعائية أطلقها حزب بهارتياجاناتا تدعو إلى “هند بلا مسلمين”، إضافة إلى تصريحات عدائية لمسؤولين حكوميين، بما يمثل تهديدًا مباشرًا للتعايش وتقويضًا لأسس الديمقراطية، أظهر تقرير رسمي في أسترالياارتفاع بلاغات الإسلاموفوبيا بنسبة 530 % بعد حرب غزة، وأوصى بتعديلات قانونية ومناهج تعليمية أكثر شمولًا، وفي بريطانيا، أطلقت شبكة النساء المسلمات خدمة لتوثيق الاعتداءات، فيما شهدت كندا حادثة تهديد بتفجير مسجد ومنزل عائلة مسلمة، أما في الولايات المتحدة، فقد أُقرت قوانين في ولايات عدة وُصفت بأنها معادية للإسلام، بينما برز سياسيون داعمون لحقوق المسلمين في سياق انتخابي جديد، وفي فرنسا، كشفت دراسة أن 82% من المسلمين يشعرون بوجود مناخ عدائي تجاههم، وثلثيهم تعرضوا للتمييز مؤخرًا، ورأى المرصد أن هذا الوضع يعكس استقطابًا خطيرًا يهدد الوحدة الوطنية ويستوجب سياسات أكثر عدالة.
أن هذه القضايا المتشابكة ألا وهي العدوان الصهيوني الذي يهدد الأمن الإقليمي والدولي، وانتشار التطرف كظاهرة عابرة للحدود، وتفاقم الإسلاموفوبيا التي تغذي العنف المتبادل، كلها تحديات جسيمة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر إرادة سياسية دولية صادقة، واستراتيجيات وقائية شاملة تعالج الجذور قبل النتائج، ودعم الشعوب الحرة التي تثبت يومًا بعد يوم أن العدل والسلام هما السبيل الوحيد للاستقرار.
إن بناء المستقبل الآمن يبدأ من مواجهة الكراهية، وتثبيت قيم التعايش، ودعم الحق الفلسطيني الذي سيبقى عنوانًا لصراع الحق مع الباطل.