حين تُسرق لوحة «زهرة الخشخاش» من متحف محمود خليل عام 2010، ويُسرق بعدها بسنوات سوار أثرى من قلب المتحف المصرى بالتحرير، فالقضية لا يمكن اختزالها فى مجرد اختراق أمنى أو ثغرة فى الحراسة. ما يحدث أعمق بكثير؛ إنه مرآة لخللٍ مجتمعى فى فهم قيمة الآثار، وفى إدراك أن تلك القطع ليست مجرد حجارة أو ألوان على قماش، بل هى ذاكرة التاريخ وروح الحضارة التى تمنح الأمم مكانتها بين الشعوب.
إن سرقة لوحة فان جوخ أو سوار فرعونى ليست جريمة جنائية وحسب، بل جريمة فى حق الوعى الجمعي. لأن الذى يسرق الآثار يسرق هويتنا، ويقتطع من ذاكرتنا قطعة، ويحرم الأجيال المقبلة من حقها فى أن ترى وتتعلم وتفخر بما تركه الأجداد. والمفارقة أن تلك القطع المنهوبة لا تزيد قيمتها المادية فحسب، بل تتحول عند سرقتها إلى رمز يُعرّى ضعفنا، ويكشف أننا لم نصن ما ورثناه من تاريخ يمتد لآلاف السنين.
القضية ليست كاميرا معطلة أو موظفاً غافلاً، بل ثقافة كاملة تحتاج إلى مراجعة. فى بلادٍ تعرف أن المتحف ليس مخزناً، وإنما ذاكرة وطنية، لا يمكن أن تُترك قطعة فنية أو أثرية بلا صيانة أو حراسة صارمة. لكن فى واقعنا، كثيراً ما يُنظر إلى المتاحف باعتبارها أماكن صامتة لا حياة فيها، أو باعتبارها ترفاً سياحياً، بينما هى فى الحقيقة مدارس مفتوحة للتاريخ والهوية.
إن عودة «زهرة الخشخاش» ـ ولو رمزياً ـ لا تعنى فقط استرجاع لوحة مسروقة، بل تعنى إعادة الاعتبار لقيمة الوعى بالآثار. تعنى أن ندرك أن كل قطعة فى متاحفنا ليست سلعة تباع فى أسواق الفن، بل شهادة ميلاد على وجودنا الحضاري. تعنى أن نعيد للمتحف مكانته كحارس للذاكرة، وأن نغرس فى أجيالنا أن حماية الآثار ليست مهمة الشرطة وحدها، بل واجب المجتمع كله.
الحضارة المصرية القديمة لم تُبنَ فى يوم أو عام، بل على مدى آلاف السنين، وحين نستهين بقطعة أثرية، كأننا نستهين بمجد طويل وعرقٍ سال عبر القرون. الآثار ليست حجراً صامتاً، بل هى نصٌ مكتوب بلغة الزمن، وهى السجل الوحيد الذى لا يمكن تزويره. فمَن يفرّط فيها كمن يفرّط فى ذاكرته، ومن يسرقها كمن يقتلع صفحة من كتاب التاريخ.
اليوم، نحن بحاجة إلى أن نجعل من كل متحف قلعة، ومن كل أثر أمانة. نحتاج أن نعيد صياغة مناهج التعليم لتغرس فى وجدان الطالب أن هذه التماثيل واللوحات والأساور ليست مجرد معروضات، بل هى هوية مصرية متصلة منذ آلاف السنين. نحتاج إلى إعلام يذكّرنا أن الدول الكبرى لم تحتفظ بمكانتها إلا بحفاظها على تراثها، وأن قوتنا الناعمة تبدأ من متاحفنا قبل أن تبدأ من مصانعنا.
«لصوص الهوية وسماسرة الوعي» ليس مجرد عنوان صحفي؛ إنه تحذير ورسالة. فالذى يسرق قطعة أثرية أو يتاجر بها لا يسرق مالاً، بل يسرق الذاكرة ويُهرّب الوعي. والأمم تُقاس بما تحميه من تاريخها، لا بما تتركه يُنهب من جدرانها. ومصر التى علّمت الدنيا معنى الحضارة، قادرة أن تصون تراثها وتسترد ما ضاع منها، إذا جعلت من حماية الذاكرة مشروعاً وطنياً لا يقل أهمية عن بناء الجسور والمصانع.