«الإسلام الصهيونى»
منذ نشأته، اعتمد تيار ما سُمّى بـ «الإسلام السياسي» على دغدغة مشاعر البسطاء عبر خطاب دينى مشحون بالعاطفة، يتاجر بالقضية الفلسطينية ويشحن ضد «الغرب الصليبي» و»إسرائيل اليهودية» كى يثبت لنفسه شرعية مفتعلة. كان الإخوان ومن خرج من عباءتهم يجيدون العزف على وتر المظلومية التاريخية، يشيطنون كل من يخالفهم، ويقدّمون أنفسهم للناس باعتبارهم أولياء الله ووكلاءه على الأرض. لكن تحت هذا الغطاء كان هناك الكثير من التناقضات والتحالفات المريبة التى لا يجرؤون على كشفها علناً.
الوقائع عبر العقود فضحت ذلك.. فالعلاقة بين الإخوان وأجهزة الاستخبارات الأجنبية، وعلاقاتهم الملتبسة مع دوائر صهيونية، لم تكن خافية على كثير من المراقبين. ومع ذلك ظلوا يرفعون شعار العداء المطلق للغرب وإسرائيل، فيما يتعاملون فى الكواليس بوجه آخر.. هذا التناقض لم يكن خللاً عابراً، بل جزء من بنية التنظيم: استخدام الأكاذيب والتضليل والمواراة كوسائل للتجنيد والاستقطاب، وبناء شرعية سياسية على حساب الحقيقة.
وحين وصلوا إلى السلطة فى بعض اللحظات المفصلية، تبدّى الوجه الآخر.. فإذا بالخطاب الاستعدائى الذى ملأوا به الساحات يتحول فجأة إلى لغة المهادنة والارتماء فى أحضان من وصفوهم بالأعداء.. الرئيس المعزول محمد مرسى خاطب شيمون بيريز بوصفه «الصديق الوفي»، فى واقعة جسدت السقوط المدوى لخطاب طالما بنى شرعيته على فكرة «المواجهة مع الصهيونية».. أما اليوم فنرى قيادات من ذات النهج، كانت ترفع أصواتها بالوعيد والتهديد ضد إسرائيل، وقد استداروا 360 درجة ليقفوا فى صفها ويجدوا فيها سنداً أو ممراً لتحقيق مصالحهم الضيقة.
إننا أمام ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها «الإسلام الصهيوني»؛ مرحلة متطورة خرجت من رحم الإسلام السياسي.. الفارق الجوهرى بين المرحلتين هو أداة الاستغلال: فى مرحلة الإسلام السياسى كانت الحناجر تُستخدم لتعبئة الجماهير ضد «العدو الصليبى واليهودي»، أما فى مرحلة الإسلام الصهيونى فإن الخناجر تُستخدم لضرب الدولة الوطنية من الداخل، عبر تحالفات مكشوفة مع أعداء الأمس، وتطابق لافت فى الخطاب مع أبواق إسرائيلية فى مهاجمة مصر وسائر الدول العربية.
الظاهرة تكشف أن ما كان يُقدَّم يومًا على أنه «خطاب مقاومة» لم يكن سوى ورقة تفاوضية لكسب الشرعية والوصول إلى الحكم.. وما أن جلس هؤلاء على المقاعد حتى انكشف المستور: لم يكن الغرب ولا إسرائيل عدواً عقائدياً بقدر ما كانا أداة للابتزاز السياسي، يوظفان فى الخطاب وقت الحاجة، ثم يتم الارتماء فى أحضانهما عندما تقتضى مصلحة التنظيم ذلك.
من حسن البنا إلى الشرع، ومن مرسى إلى قيادات أخري، تتكرر القصة بنفس الأسطوانة: بناء خطاب تعبوى يقوم على الكذب والتخويف وادعاء القداسة، ثم التراجع والانكشاف والتحالف مع من تم تصويرهم كأعداء الأمة. الفارق أن هذه المرة لم يعد هناك خجل ولا مواراة؛ بل بات التلاقى مع إسرائيل واقعاً مُعلَناً فى أكثر من ساحة، حتى صار من المشروع وصف هذه الظاهرة بـ «الإسلام الصهيوني».
الخطر الأكبر أن هذه التحولات لا تمثل فقط سقوط مشروع سياسي، بل تهديداً مباشراً للدولة الوطنية. لأن هذا التيار لم يعد يستهدف الغرب ولا إسرائيل كما يزعم، بل صار سلاحه موجهاً إلى الداخل، لتقويض مؤسسات الدولة الوطنية وإضعافها، وتشويه رموزها، وخلق بيئة من الشك الدائم لصالح أجندات تخدم أطرافاً معادية.
إن وداع الإسلام السياسى لا يعنى نهاية التحدي، بل بداية مرحلة أشد خطورة، حيث يتحول من كان يدّعى العداء لإسرائيل إلى شريك موضوعى معها فى خطاب واحد ضد الأوطان. هنا تبرز ضرورة الوعى الشعبى واليقظة الوطنية؛ لأن ما يُسمى «الإسلام الصهيوني» ليس مجرد مصطلح إعلامي، بل توصيف لواقعٍ جديد، يفضح زيف من تاجروا بالدين سنين طويلة، قبل أن يكشفوا وجههم الحقيقي: عصبةٌ لا همّ لها إلا السلطة، حتى لو كان ثمنها الارتماء فى حضن إسرائيل ذاتها.