الأمم لا تُقاس فى ساعات الرخاء ولا تُمتحن فى أيام الوفرة، وإنما تُعرَف حقيقتها وتُختبر معادنها حين تضرب العواصف، وحين تتكالب الأزمات، وحين يخيَّل للجميع أن النهاية باتت قريبة. هناك، فى قلب المحنة، تُصنع القوة، وتُكتب السير، وتُحدد مصائر الشعوب. التاريخ لا يجامل، ولا يعطى شهادات بالمجان، لكنه يضع الأمم فى أتون النار، فمن صبر على لهيبها واحتمل حرّها خرج أصلب عوداً وأقوى شوكة، ومن استسلم سقط فى مزابل النسيان.
ألمانيا، تلك الأمة التى عرفت مرارة الهزيمة والانقسام، كانت فى منتصف القرن العشرين مجرد أنقاض متراكمة فوق أنقاض، جراح لم تلتئم، وبلاد مقسّمة بين شرق وغرب، ونظام مهزوم وذاكرة مثقلة بالخطيئة. كثيرون قالوا إنها انتهت إلى الأبد، وإنها لن تقوم لها قائمة بعد حربين عالميتين دفعت فيهما الثمن باهظاً. لكن الشعب الألمانى ابتلع آلامه، وحوّل هزيمته إلى وقود للنهوض، وراح يبنى حجراً فوق حجر، حتى غدت ألمانيا اليوم قلب أوروبا النابض، قوة صناعية كبري، وركيزة اقتصادية عالمية. هذه ليست معجزة، وإنما درس بليغ فى أن الأمم العظيمة لا تستسلم، وأن الصبر على الانكسار هو أول الطريق نحو الانتصار.
وروسيا، التى كادت تنهار حين أحاطت بها جيوش هتلر وضرب عليها حصار خانق فى لينينجراد، سنوات طويلة من الجوع والبرد والقتل، لكن الشعب الروسى قاوم بأسنانه، صمد حتى الرمق الأخير، ثم خرج منتصراً ليكتب ملحمة صمود تحوّلت إلى رمز خالد فى الذاكرة الإنسانية. إن حصار لينينجراد لم يكن مجرد اختبار لمدينة، بل كان اختباراً لأمة كاملة، أثبتت أن القدرة على الاحتمال قد تصنع أعظم الانتصارات.
واليابان، تلك الجزيرة التى تلقت الضربة الأقسى فى التاريخ الحديث، قنبلتان ذريتان أحرقتا هيروشيما وناجازاكي، وجرحتا الضمير الإنسانى إلى الأبد. ظن العالم أن اليابان انتهت، وأنها ستبقى كومة من رماد على أطراف المحيط. لكن اليابانيين صبروا، شدوا الأحزمة على البطون، وانطلقوا فى مسيرة إعادة البناء. لم يكتفوا بأن ينهضوا من تحت الركام، بل قفزوا إلى مصاف الأمم المتقدمة، وصاروا قوة اقتصادية وتكنولوجية تضاهى الكبار. من تحت ظلام القنبلة الذرية خرجت اليابان لتقول للعالم: لسنا جثثاً على قارعة التاريخ، بل أمة تعرف كيف تعيش رغم أنف الموت.
وفيتنام، تلك الدولة الصغيرة التى ألقت فى وجه أمريكا أقوى الإمبراطوريات فى القرن العشرين، فتية حفاة يقاتلون فى الغابات، يواجهون طائرات B-52 وصواريخ النابالم، لكنهم لم يرفعوا الراية البيضاء. سنوات من الدمار والموت والخراب، لكن النتيجة كانت أن فيتنام انتصرت، وحررت أرضها، وأثبتت أن الشعوب إذا أرادت الحياة فإن قدر المستحيل أن ينهزم. تجربة فيتنام درس آخر فى أن الإيمان بالقضية والصبر على الجراح قادران على كسر أنياب أقوى قوة عسكرية فى العالم.
ومصر، يا لها من مصر. فى يونيو 1967 كان الجرح غائراً فى قلب كل بيت، كان الانكسار كالسيف المعلق فوق رقاب المصريين، كان الألم أعمق من أن يوصف. لكن المصريين صبروا، ابتلعوا الغضب، احتموا بوطنهم، وأمسكوا على جراحهم كما يمسك الجندى على بندقيته.
ست سنوات كاملة ظل الشعب المصرى يكد ويعمل، يزرع ويصبر، يبنى ويقاوم، حتى جاء السادس من أكتوبر 1973، يوم العبور العظيم، يوم استعاد المصريون شرفهم وأرضهم وهيبتهم. إن ملحمة أكتوبر لم تكن انتصار جيش فحسب، بل كانت انتصار أمة كاملة عرفت كيف تصبر وتتحمل حتى يحين موعد النصر.
والصين، التى كانت فى يوم من الأيام مرادفاً للفقر والجوع والمرض، بلد مثقل بالاحتلالات والمجاعات، عانت من القرون المظلمة، لكنها لم تستسلم. صبرت على معاناتها، وتحمّلت أوجاعها، حتى تحوّلت اليوم إلى قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة على قيادة العالم. لم يكن صعود الصين وليد الصدفة ولا هدية من أحد، بل كان ثمرة قرون من الصبر الطويل، والتخطيط الصامت، والإيمان بأن الأمة مهما ضعفت قادرة على أن تعود وتتصدر المشهد.
هكذا يعلمنا التاريخ أن الأمم كلها تمر باختبارات قاسية، وأن لحظة الاختبار ليست نهاية الطريق بل بدايته. الأمة التى تتحمل الألم وتتماسك فى المحن، هى الأمة التى تعود لتصنع مستقبلها. والأمة التى تفر من قدرها، وتتفرق فى ساعة الشدة، هى التى ينساها التاريخ. نحن اليوم أمة تحت الاختبار، وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه أزماتنا بما مرّت به الأمم الكبري. السؤال الذى يجب أن يطرحه كل فرد على نفسه: هل نمتلك صبر الألمان على الهزيمة، وعناد الروس فى الحصار، وإصرار اليابان بعد الكارثة، وبسالة الفيتناميين فى الغابات، وصبر المصريين بعد الهزيمة، وحكمة الصينيين عبر القرون؟ أم أننا سنترك الاختبار يهزمنا قبل أن ننجح فيه؟
إن الإجابة لا تأتى من الخارج، ولا تمنحها القوى العظمي، ولا يوزعها مجلس الأمن، بل تصنعها إرادة الشعوب. نحن أمة تحت الاختبار، والنتيجة لم تُكتب بعد، والفرصة ما زالت قائمة. التاريخ يفتح صفحاته، فإما أن نكتب سطور المجد، وإما أن نترك غيرنا يكتب عنا مراثى الانكسار.