مازلت عند رأيى الذى أبديته سابقاً فى هذا المكان، وهو أن القمة العربية الإسلامية المشتركة الأولى التى عقدت فى مدينة جدة عقب اندلاع انتفاضة الأقصى فى السابع من أكتوبر 2023، كانت وستظل «أم القمم العربية الإسلامية» والوحيدة بعد ما تلاها من قمم مماثلة، أو عربية فقط، التى تستحق أن نطلق عليها وصف القمة التاريخية.
إن هذه القمة نجحت فى «الاستشعار المبكر» بما يجب أن يكون عليه موقف المجتمع الدولى فى دعم الشعب الفلسطينى وقضيته فى مواجهة حرب الإبادة التى بدأتها إسرائيل ضده فى غزة رداً على هذه الانتفاضة، فقدمت للمجتمع الدولى خارطة طريق واضحة، وذات مسارات محددة لما يتعين اتخاذه من قرارات وإجراءات ومواقف للتصدى لهذه الحرب الهمجية ودعم الشعب الفلسطينى فى مواجهته لها.
إن الرجوع إلى وثيقة هذه القمة التاريخية، وإلى ما اتخذته دول العالم المختلفة من مواقف وإجراءات عملية، فردية وجماعية ضد إسرائيل، وإلى جانب القضية الفلسطينية، يثبت مدى التطابق بين الاثنين، وأن تلك المواقف والإجراءات ما كانت سوى ترجمة لما تضمنته ودعت إليه هذه الوثيقة واستجابة لها، وأن ذلك مازال مستمراً حتى اليوم.
والأمثلة على ذلك عديدة
تقديم إسرائيل ــ كدولة ــ إلى محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى غزة.
تقديم رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو ووزير دفاعه السابق للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وصدور أمر دولى بالقبض عليهم وتقديمهم للمحكمة.
وقف تصدير السلاح لإسرائيل من جانب الدول المصدرة.
وقف استيراد أو التعامل مع منتجات المستوطنات الإسرائيلية باعتبار هذه المستوطنات أصلاً غير شرعية وتقع فى أرض محتلة ولا تحظى باعتراف دولي.
وقف المحاولات الإسرائيلية لإلغاء وكالة «الأونروا» الدولية التابعة للأمم المتحدة والتى تعمل فى مجال غوث اللاجئين.
وهناك شبه إجماع داخل الاتحاد الأوروبى على دراسة وقف أو تعليق الاتفاق التجارى مع إسرائيل.
وبعض الدول أصدرت قرارات بمنع وزراء اليمين الإسرائيلى المتطرفين من دخول أراضيها.
وتجرى حالياً دراسة منع الفرق الرياضية الإسرائيلية من المشاركة فى البطولات القارية.
وأخيراً يترقب العالم يوم الاثنين القادم الثانى والعشرين من سبتمبر الحالى الذى ستشهد فيه الأمم المتحدة ما يشبه المهرجان الدولى للاعتراف بالدولة الفلسطينية من جانب دول لم يكن يتوقع أحد أن تبادر بذلك فى أى وقت.
هذه المجموعة من المواقف والإجراءات هى بمثابة «عقوبات» وقعتها دول بقرارات فردية منها أو جماعية، خارج نطاق الأمم المتحدة، وخارج سيطرة الفيتو الأمريكي، وتعبيراً من هذه الدول، أو ترجمة منها لمفهومها لمصطلح «السيادة الوطنية» والذى يعنى حصرياً «استقلال القرار وقوة الإرادة».
ولقد أخطر الرئيس الأمريكى ترامب ــ على سبيل المثال ــ الدول التى قررت الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنها ستواجه «عواقب» من جانب أمريكا إذا مضت فى هذا الطريق، فى محاولة ضغط مكشوفة لإثنائها عن القرار قبل إعلانه الاثنين القادم، لكن الواضح أن الفشل سيكون نتيجة المحاولة.
لا أريد أن اسأل، كم من الدول الأعضاء فى منظمتى جامعة الدول العربية، والتعاون الإسلامى التى حضرت تلك القمة وما تلاها من قمم، وأقرت وثيقتها، وعددها سبع وخمسون دولة، بادرت بتنفيذ ما دعت المجتمع الدولى إلى تنفيذه من قراراتها، فالبعض قد يعتبره سؤالاً «خارج المقرر».
لكنى أريد أن انتقل إلى نقطة أراها غاية فى الأهمية، وهى أن هذه الاستجابة العالمية الواسعة لوثيقة قمة جدة العربية الإسلامية الأولي، ما كانت لتحدث بهذا «الزخم» والاتساع الذى امتد إلى قارات العالم الست، «إلا بفضل ثلاثة عوامل أساسية «نفخت الروح» فى سطور وكلمات هذه الوثيقة وشحنتها بكل ما يحتاجه الضمير الإنسانى من قوة دافعة.
العامل الأول.. هو «غطرسة القوة» الإسرائيلية واستعلاؤها وإمعانها من ارتكاب جرائمها فى الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير والإيلاغ فى دماء المدنيين الأبرياء، وتدمير كل مايساعد على استمرار الحياة الإنسانية فى غزة.. هذا المسلك غير المألوف فى القرن الحادى والعشرين، هو الذى ساهم فى تأليب الرأى العام العالمي، ومن ثم الدول والحكومات ضد هذه الهمجية، وشجعه على التصدى لها.
العامل الثاني: هو الصمود الأسطورى للطفل الفلسطينى والمرأة الفلسطينية وللمقاتلين الفلسطينيين الذين واجهوا ذلك كله بصدور عارية، وبنية أساسية تهوى أمام أعينهم لتتركهم بلا مدارس ولا مستشفيات ولا مصادر غذاء أو شراء، وأجواء مكشوفة أمام طيران حربى يستقوى عليهم ويعتبر ذلك انتصاراً عسكرياً وهو الهزيمة بعينها.
العامل الثالث: الجهد الخرافى بكل ما تحمله هذه الجملة من معان الذى بذلته وتبذله مصر والسعودية حتى الآن فى قيادة العمل العربى الإسلامى المشترك، وفى التحرك من اليوم التالى لانتهاء القمة، بلجنة المتابعة وإنشاء آليات دولية لتفعيل بعضها مثل مؤتمر حل الدولتين.
إن علينا كشعوب عربية وإسلامية ورأى عام عالمى أيضاً، أن نحيى بكل تقدير واعتزاز دولاً ليست من إقليمنا، وليس عليها التزام قومى أو دينى بدعم قضيتنا، لكنها فعلت ما لم تفعله وتحملت من العواقب ما كانت فى غنى عنه.
تحية لشعوب وحكومات وقادة جنوب إفريقيا، وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا، والبرازيل، واستراليا، وغيرها ولكل من قدم ويقدم دعماً لقضايانا.
واقترح أن تتضمن كلمة مصر أمام الأمم المتحدة يوم الاثنين القادم مثل هذه التحية وأن نتعهد بأن نبادل شركاءنا فى الإنسانية التضامن والدعم لقضاياهم فى كل وقت.