لـ«الجمهورية» تاريخ صحفى عريق منذ صدور عددها الأول فى 7 ديسمبر 1953؛ فهى جريدة الثورة وصوت الشعب، وقد خطّت على صفحاتها أقلام لامعة وشخصيات تاريخية بارزة، من بينهم الرئيس الراحل أنور السادات الذى روى بنفسه قصة «الجمهورية»؛ الثورة والجريدة.
لقد تميّزت «الجمهورية» بشخصية صحفية متفردة وبصمة راسخة فى عالم صاحبة الجلالة، وكانت صاحبة السبق فى تنظيم رحلة أوائل الجمهورية فى الثانوية العامة؛ إذ بدأت أولى رحلاتها إلى بيروت عام 1968، ثم اتسعت الرحلة لتشمل ست دول أوروبية هي: فرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا، وألمانيا، واليونان، وبلجيكا.
وكان من بين أوائل الثانوية الذين شملتهم هذه الرحلات نابهون صاروا فيما بعد رموزًا فى المجتمع، من أساتذة وأطباء وسفراء، بل ومن بينهم وزير الخارجية الحالى د. بدر عبدالعاطي، الذى يفاخر بانتمائه إلى أسرة من الطبقة الوسطي، ولا يزال يذكر بامتنان الصحفى الراحل الكبير إسماعيل الشافعى نائب رئيس التحرير ورئيس قسم الأخبار فى عهد الكاتب الصحفى الكبير محسن محمد، وقد تولّى الشافعى بعناية فائقة تنظيم هذه الرحلات لسنوات طويلة، حتى رحل عن دنيانا بعد مشوار مهنى حافل بالعطاء.
وقد عُرف الشافعى بدقته وحرصه، فكان يختار خبيرًا من وزارة التربية والتعليم، إضافة إلى صحفيين شباب من «الجمهورية»، لاصطحاب الأوائل فى رحلة تستمر نحو 40 يومًا، ببرنامج متكامل يجمع بين الثقافة والمعرفة والترفيه وزيارة المعالم المهمة، وأتذكر أن رئيس النمسا فالدهايم استقبل الأوائل وأجرى معهم حوارًا مطولا كنت مشاركًا. وكانت هذه التجربة الفريدة تغسل عناء الدراسة، وتُحفّز الطلاب من الأجيال التالية على مضاعفة الجهد لنيل شرف السفر ضمن رحلة الأوائل.
ومازالت ذاكرتى عامرة بذكريات حلوة لتلك الرحلة التى عاصرتها منذ التحاقى بالعمل محررًا فى «الجمهورية» عام 1976، بتوجيه من الكاتب الكبير محسن محمد، الذى دفع بى إلى قسم الأخبار برئاسة الأستاذ إسماعيل الشافعى آنذاك. وعلى يديه تعلمت الكثير فى بدايات مسيرتى المهنية؛ فمن لم يبدأ محررًا للأخبار أو مندوبًا بالوزارات فقد فاته الكثير من أصول المهنة. وكان الشافعى قدوة فى الانضباط والتفاني؛ يسبق المحررين حضورًا، ولا يغادر حتى يطمئن إلى تغطية جميع الوزارات والهيئات. وإلى جانبه برز جندى مجهول لا يقل أثرًا، هو الأستاذ ناجى قمحة، مدير التحرير ورئيس التحرير التنفيذى مع كل رؤساء التحرير الذين تولوا رئاسة تحرير «الجمهورية»، وكان عمودًا أساسيًا فى إخراج الجريدة ونجاحها.
ولم تكن رحلة الأوائل وحدها علامة «الجمهورية»، بل تعددت علامات تميّزها. فقد سبقت غيرها إلى التحول الرقمى فى عهد الكاتب الكبير سمير رجب، الذى خطّ بيده أول بريد إلكترونى فى الصحافة المصرية بتاريخ 23 ديسمبر 1999 تحت مقاله الشهير «خطوط فاصلة». كان هذا المقال بكبسولاته الصاخبة يثير دويًّا هائلًا فى الأوساط السياسية ويحرّك المسئولين وصنّاع القرار، متقدّمًا بذلك على كل الصحف المنافسة.
وعندما توليت رئاسة مجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية) عام 2009، وحتى قدّمت استقالتى بعد أحداث يناير 2011، لم أتأخر عن دعم المؤسسة بأحدث أدوات العصر؛ فأنشأت قطاعًا لتكنولوجيا المعلومات بقيادة زملاء أكفاء على رأسهم سعد سليم ومحمد الشرقاوي، ليكون مظلة لكل ما يتعلق بالخدمات الرقمية. وكان قسم الخدمات الصحفية المتميزة (139 جمهورية) نموذجًا رائدًا فى «صحافة المواطن»، حيث شارك القراء بصناعة الخبر والتحقيق والتقرير وحتى الحوادث، قبل أن تصل للأجهزة الرسمية نفسها، وذلك عبر الهاتف، أى قبل أن يتربّع المحمول وتطبيقاته على عرش الإعلام. وقد وثّقت الزميلة د. عزة قاعود هذه التجربة فى كتابها «رحلتى من القلم إلى الموبايل»، مشيرة إلى تأسيس «تحرير أون لاين» كبوابة إلكترونية سبّاقة لـ»الجمهورية».
إن «الجمهورية» بحق جريدة تاريخية فى نشأتها وتطورها، وأكثر الصحف ارتباطًا بالزعماء؛ منذ أن وقّع الرئيس جمال عبدالناصر طلب إنشائها وكتب افتتاحيتها الأولي، مرورًا بالرئيس أنور السادات الذى لم يكتف بالكتابة فيها، بل تولى رئاسة مجلس إدارتها بعد أن قدّم 300 جنيه كضمانة لإصدارها، ثم صار مديرًا عامًا لها، وصولًا إلى الرئيس حسنى مبارك الذى افتتح مطابعها ومبناها الجديد بشارع رمسيس.
لقد عُرفت «الجمهورية» بأنها جريدة الشعب رغم كونها صحيفة الثورة، فقد تبنّت قضايا الناس، وتلمست همومهم وأحلامهم، ورفعت مطالبهم إلى المسئولين. وبلغ توزيعها فى أوجها أكثر من 850 ألف نسخة يوميًا.
ويُسجَّل الفضل فى نهضتها وتوسّعها لعدد كبير من أعلام الصحافة والأدباء والمفكرين.
وستبقى هذه الرحلة التى استمرت قوية متألقة حتى أحداث يناير 2011، بما تحمله من دلالات تربوية وثقافية، شاهدًا على اهتمام «الجمهورية» بالمتفوقين وتكريم طلاب العلم.
رحم الله أستاذنا إسماعيل الشافعي، أيقونة رحلة الأوائل، والراحل الكبير الأستاذ محمد حمودة مدير عام تحرير «الجمهورية» الذى كان له دور بارز فى نجاح الرحلة، والزميل عبدالوهاب عدس الذى كان دينامو حقيقيًا لنجاحها. وأنا واحد ممن امتدت إليهم يد هذا التكريم، حين رشحنى الراحلان محسن محمد وإسماعيل الشافعى لمرافقة الرحلة وفق معايير صارمة لا مجاملة فيها ولا وساطة. فشكرًا لكل من أسهم فى جعل «رحلة الأوائل» أيقونةً متفردة وشاهدًا خالدًا على عراقة «الجمهورية» ودورها الريادى فى التنوير وتحفيز الموهوبين والمبدعين من طلاب العلم.
وأخيرًا.. كم تمنيت أن يكون هناك توثيقٌ لمسيرة رحلة «الجمهورية» للأوائل من خلال كتاب فخيم وخير من يقوم بتلك المهمة الزميل عبدالوهاب عدس.