في كل مرة تشهد فيها صادرات النفط الليبي حالة من عدم اليقين، يطالب المشترون بخصومات. فعندما تلوح في الأفق مخاطر الإغلاق أو التأخير، تنخفض القيمة السوقية للخام الليبي. في بعض الحالات، يُباع هذا الخام بخصم يتراوح بين 2 إلى 5 دولارات للبرميل دون سعر خام برنت، ما يُترجم، عند تصدير مليون برميل يوميًا، إلى خسائر شهرية تتراوح بين 60 و150 مليون دولار.
هذه الخسارة لا تعود إلى حرب أو أضرار مادية، بل إلى عامل واحد: فقدان الثقة.
المشترون لا يدفعون فقط مقابل النفط، بل مقابل الاعتمادية.
فعندما تُغلق الموانئ الليبية بشكل مفاجئ، تنتظر السفن لأيام، ما يضيف تكاليف “رسوم التأخير” (Demurrage) تُحمّل لاحقًا على الدولة في شكل خصومات إضافية. وحينما تهدد الميليشيات الحقول أو الموانئ، يبادر التجّار إلى خفض عروضهم تفاديًا للمخاطر.
والأمثلة كثيرة:
في عام 2020، تسببت الإغلاقات المتكررة في مطالبات بخصومات كبيرة. وحتى في عام 2022، ورغم استقرار الإنتاج، أدت شائعات الإغلاق إلى انخفاض الأسعار بمقدار عدة دولارات.
النتيجة: الخصومات تتراكم بأسرع من زيادات الإنتاج.
واجه منتجون كبار نفس التحدي.
في نيجيريا، أدى الاضطراب في منطقة دلتا النيجر إلى خصم بلغ 6 دولارات تحت سعر برنت، قبل أن ينخفض إلى أقل من دولارين بعد استعادة الاستقرار.
العراق شهد سيناريو مشابهًا خلال أزمة 2014، حيث تجنّب المشترون خام البصرة مؤقتًا، ثم عادوا مع تحسّن الانتظام في التصدير.
الاستنتاج واضح: الثقة تُبنى، والخصومات تتقلص عندما يكون الاستقرار هو القاعدة.
خصومات الأسعار تُخصم من عائدات ليبيا قبل أن يغادر النفط موانئها.
الخصم بقيمة 3 دولارات على مليون برميل يوميًا يعني خسارة سنوية تصل إلى مليار دولار، أي ما يعادل:
• رواتب 70 ألف معلم
• أو ميزانية شبكة مستشفيات وطنية
• أو صيانة البنية التحتية الكهربائية على مستوى البلاد
الليبيون لا يشعرون بهذه الخسارة في البيانات الرسمية، لكنهم يدفعون ثمنها عبر تدنّي مستوى الخدمات وازدياد المعاناة اليومية.
حينما تُصدّر ليبيا بشكل منتظم ومن دون انقطاعات، يتقلص الخصم ويقترب السعر من برنت.
كل دولار إضافي في سعر البيع يعني مئات الملايين من العائدات سنويًا.
في عام 2019، تقلّصت الخصومات وارتفعت الإيرادات مع انتظام الصادرات. وفي المقابل، تراجعت الإيرادات رغم ارتفاع الإنتاج في عامي 2020 و2022 بسبب تكرار الإغلاقات.
الاستنتاج؟ الاستقرار ليس فقط قيمة معنوية، بل مصدر دخل فعلي.
رسوم التأخير (Demurrage) تُشكّل عبئًا إضافيًا.
كل ناقلة تنتظر عند الميناء قد تكلّف مالكها 25,000 دولار يوميًا.
وفي فترات الذروة، حين تنتظر 20 سفينة في البحر، يمكن أن يؤدي أسبوع واحد من التأخير إلى ملايين الدولارات من الخسائر.
المشترون يعوضون هذه الخسائر بخفض السعر في الشحنات التالية، فتتراكم الخسارة.
الثقة تُبنى عبر أنظمة وليس عبر التصريحات. ولتحقيقها، تحتاج ليبيا إلى ثلاث خطوات أساسية:
1. نشر تقارير ربع سنوية عن كميات الصادرات والمشترين والعقود، لتعزيز الشفافية.
2. وضع بروتوكول طوارئ واضح لتحديد من يتحرك في حال وقوع أزمة بالموانئ أو الحقول.
3. إخضاع عمليات الشحن والإيرادات لتدقيق مستقل، ونشر ملخص النتائج للعامة.
عندما يتولى المهنيون إدارة العمليات، تستمر الصادرات، وتنخفض الخصومات.
أثناء فترات الأزمة، قاد التكنوقراطيين في المؤسسة الوطنية للنفط ومنهم عماد بن رجب عمليات التسويق بفاعلية، حافظوا على التزامات العقود، وتواصلوا مع الجهات الدولية المعنية بالعقوبات.
النتيجة؟ استمرار التدفقات رغم التحديات.
التدخل السياسي، بالمقابل، يؤدي إلى عكس ذلك تمامًا: تآكل الثقة وارتفاع الخصومات.
الاضطراب يُكلّف ليبيا مرتين:
• مرة في الطوابير التي تطول أمام محطات الوقود
• ومرة في الخصومات التي تُفرض على أسعار النفط
الاستقرار يزيل كلا الخسارتين.
حماية الكفاءات، تعزيز الشفافية، وتطبيق قواعد واضحة هي مفاتيح تضييق الفجوة مع سعر برنت.
وهذه الفجوة ليست مجرد رقم، بل تعليم وصحة وخدمات للمواطن.
عامل الاستقرار كأصل وطني.
احمه بالحوكمة، الشفافية، وتمكين التكنوقراط.
عندما تُبنى الثقة، تتقلص الخصومات، ويعود كل برميل بقيمته الكاملة إلى الوطن.