هل سبق أن نسيت ورقة مالية فى جيب ملابسك، ودخلت مع الغسيل فى الغسالة ثم خرجت مشوهة أو ممزقة أو ممسوحة؟.. كل الرجال يفعلون ذلك.. ولكن هذا الأمر ليس له أى علاقة بكلمة «غسيل الأموال» التى صرنا نسمع عنها كثيرا.. فهذا المسمى يطلق على عالم خفى تدور فيه مليارات الدولارات التى اكتسبت بطرق غير مشروعة وتمرر عبر قنوات اقتصادية تبدو قانونية، لإخفاء أصلها الملوث. إنها واحدة من أخطر الجرائم الاقتصادية فى العالم، جريمة لا تمحوها المياه، ولا يزيل أثرها أى منظف، لأنها تترك ندوبا عميقة فى جسد الاقتصاد والمجتمع. ولأكون صريحا، كنت فى الماضى واحداً ممن لا يعرفون المعنى الحقيقى لهذه الجريمة، قبل أن اكتشف أنها تشمل استثمار أموال مصدرها تجارة المخدرات، أو تهريب الآثار، أو الاتجار بالبشر، أو الفساد، أو النصب.. ثم دمجها فى أنشطة مالية وتجارية مشروعة لتبدو وكأنها أموال نظيفة.. هذا الأمر يعتبر جريمة فى غالبية دول العالم.. وفى مصر، يعاقب القانون رقم 154 لسنة 2022 على هذه الجريمة بوضوح، مؤكدا أن أى شخص يعلم أن الأموال متحصلة من جريمة، ثم يحولها أو ينقلها لإخفاء حقيقتها، يعد مرتكبا لجريمة غسل الأموال.
عرف العالم هذه الجريمة منذ آلاف السنين لدى الصينيون، ولكن اسمها ارتبط فى العصر الحديث بأسطورة المافيا الإيطالية «ألفونس كابوني»، الذى كان يهرب الخمور إلى أمريكا فى فترة منعها من 1920 إلى 1933 وحقق من وراء ذلك مكاسب هائلة.. ومن أجل أن يخفى هذه الأموال الملوثة.. قام بمشروع كبير لمغاسل الملابس ليخفى أرباحه غير المشروعة فى إيرادات هذا المشروع. وربما تعود تسمية «غسيل الأموال» إلى مشروع تلك المغاسل.. واليوم، تطورت الأساليب وأصبحت أكثر تعقيدا وخفاء، لدرجة أن التحويلات الإلكترونية قادرة على غسل مبالغ هائلة فى ثوانٍ معدودة. عملية غسل الأموال ليست مجرد إيداع المال فى المؤسسات المالية.. بل هى عملية إجرامية معقدة من أجل ضمان عدم اكتشافها أو تتبع مصدرها من قبل الجهات الأمنية.
التقارير الاقتصادية تحذر من أن حجم الأموال المغسولة عالميا يتجاوز تريليون دولار سنويا، أى ما يقارب 15 ٪ من التجارة العالمية. والبنوك السويسرية وحدها يعتقد أنها تحتفظ بما بين تريليون وترليونى دولار من هذه الأموال، بينما تحتل دول أخرى مثل لوكسمبورج وإمارة موناكو والتشيك وإسرائيل مراكز متقدمة فى استقبالها.
ولعل الحديث عن غسيل الأموال يجرنا الى مسألة «تشويه» الأموال.. فالبعض فى مصر لا يحترم عملتنا النقدية الورقية ولا نصونها.. بل نكتب عليها.. ونشوهها.. ونعلن عليها أحيانا.. ومع ذلك يتم تداولها.. بينما العملات فى بلدان كثيرة لا تقبل للتعامل إذا كان بها أو عليها أى خلل.. ولعلنا ونحن بصدد طرح الأوراق من فئة المائة جنيه الجديدة.. والتى تتكلف الكثير من أجل إصدارها.. لعلنا نصدر قراراً بعدم التعامل مع أى ورقة مالية ومن أى فئة يكون عليها ما يعيبها.. وهذا سيؤدى بطبيعة الحال إلى الحرص على عدم المساس بالأوراق النقدية.. احتراما لعملتنا الوطنية.