بقلم : حلمى النمنم
هناك مقولات شائعة، يأخذها بعضنا على أنها حقائق مسلم بها أو أنها بديهيات لا يصح التساؤل حولها والتثبت منها، ناهيك عن التشكك فيها، من ذلك أننا نعيش عصر الشفافية والوضوح، كل شىء مكشوف ومعلن، لا أسرار فى هذا العالم، كل التفاصيل على الهواء طوال اليوم، بل ان هناك من تشكى من شدة الشفافية على خصوصية الانسان، كل إنسان، التكنولوجيا الحديثة تقوم بكشف كل خبء والروح الديموقراطية التى تلف عالمنا تفرض الشفافية والمصارحة على الجميع، المعلوماتية تلزم الجميع بذلك.
لكن كل ما سبق فيه مبالغة وتهويل شديد، ونحن فى عصر الألغاز وأشباه المعلومات، والكذب والغموض سيد الموقف، وآخر تجليات الكذب والغموض هو الهجوم الإسرائيلى عصر الثلاثاء الماضى على العاصمة القطرية الدوحة.
الهجوم الاسرائيلى الوقح وما يحيط به من غموض وأكاذيب، ليس إلا حلقة فى سلسلة طويلة، تضرب العصر كله على عكس ما هو شائع إلى يومنا هذا، وهل لدينا عِلْم مؤكد حول سقوط طائرة الرئيس الإيرانى الراحل «إبراهيم رئيسى» رغم مرور قرابة العام ونصف العام.. كيف سقطت ومن وراء تلك الجريمة، وهل هى حمولة زائدة كما قيل، ومنذ متى تقلع طائرة رئيس الجمهورية فى دولة عريقة مثل إيران بحمولة زائدة؟ وهل هى أتوبيس نقل عام أم ميكروباص فى الأرياف؟ هل تم تفجيرها من الداخل، ولو صح ذلك من يكون فعلها؟ وهل كان الرئيس يستعمل فعلا جهاز «البيجر» وتم تفجيره كما حدث بعد ذلك فى جنوب لبنان مع كوادر حزب الله؟..وهل أُسقطت الطائرة بفعل داخلى على غرار مذبحة القلعة، كما رددت المعارضة الإيرانية فى صراعات الأجنحة داخل الجمهورية الإسلامية؟
تساؤلات كثيرة، لكن الواضح أنه لا توجد معلومة بها قدر من المصداقية يمكن الاستناد إليها، المؤكد فقط أن الطائرة سقطت أو أسقطت وأن كل من كان على الطائرة -الرئيس وعدد من كبار المسئولين-لقى وجه الله.
وإذا تركنا إيران ومأساة الرئيس الايرانى السابق، وتوجهنا الى سوريا الشقيقة وما جرى فيها خلال الايام الاخيرة من شهر نوفمبر الماضى وحتى دخول أحمد الشرع القصر الجمهورى يوم 8 ديسمبر الماضى، لماذا وكيف تبخر الجيش السورى فجأة وأخلى مواقعه وترك أسلحته ومُدُنا بأكملها، فما هو الترتيب الذى غادر بمقتضاه الرئيس بشار الأسد سوريا، وهل دفع إلى ذلك دفعا أم كان طرفا مشاركًا فى الترتيبات، وكأننا بإزاء عملية تسليم وتسلم؟ وظاهر الأمور يمكن أن يدفعنا الى ذلك، وكل ما لدينا أطراف ما يمكن ان نسميها معلومات، الأسبوع الماضى تحدث الرئيس الشرع إلى التلفزيون السورى وقال إنهم بعد الاستيلاء على مدينة حماة، تفاهموا مع الروس وترك الروس لهم مدينة حمص كاملة بموقعها الاستراتيجى المهم، وقال أيضا إنه كان هناك اتفاق مع الروس وتعهدات متبادلة وقد أوفى كل منهما بما تعهد به ،ترى ماذا كانت تلك التعهدات وأين كانت امريكا واسرائيل ،هل هناك ترتيبات أخرى معهما، كما يبدو لنا، وكيف ولماذا ترك المجال الجوى السورى مفتوحا ومازال أمام سلاح الجو الاسرائيلى ،من الذى تولى هندسة ذلك كله ،من هم أطراف الاتفاق والترتيب ؟عشرات التفاصيل المهمة غائبة وما عاد هناك من يهتم بالبحث فيها ومحاولة كشف اللثام عن بعضها ،لن أقول كلها، وهل هناك تفسير لما يجرى فى سوريا الآن ،خاصة فى السويداء وفى مناطق الساحل ،ناهيك عن قيام مدرعات اسرائيلية بالتجول فى بعض قرى ومناطق محافظة القنيطرة ،الواضح ان اجراءات الأمن العادية متروكة بالكامل لجيش الدفاع الاسرائيلى. . إنه زمن الغموض والخفاء، لا معلومات ولا شفافية.
وقد يذهب البعض الى ان القضية تتعلق بالبلاد العربية ومناطق الشرق الاوسط، باعتبارها وفق تصوراتهم بلدان تفتقر الى الديمقراطية والشفافية، باختصار دول العالم الثالث، لكن دعونا نذهب الى دول العالم الأول أو الثانى.
لنتوقف عند انتخابات الرئاسة الامريكية، مثلًا التنافس الشديد الذى كان بين بوش الابن ونائب الرئيس آل جور، كان الفارق عدة أصوات ولصالح آل جور، ثم ران الصــمت وأعلن فوز بوش، هناك اتفاق تم خلف الكـواليس، لم يتحدث أحد عما دار فيه، التسريبات ذهبت الى ان «آل جـور»، لم يكن مرغوبا فيه من المؤسسات الحاكمة، وربما لمواقف سياسية اخرى، هكذا سرًا اعطى الجميع ظهره لصندوق الاقتراع وجرى التفــاهم، وأغــلق هذا الملف الى اليـــوم بكل ما فيه.
ما جرى فى انتخابات دونالد ترامب الاولى ثم تنافسه مع جو بايدن سنة 2020، حدث ولا حرج، هناك الكثير من الامور المتعلقة بها الى اليوم، يلفها الغموض وحولها علامات استفهام.
الولايات المتحدة فيها الكثير من ذلك وليس فقط الانتخابات الرئاسية.
فى بريطانيا نفسها-أم الديموقراطية-تتراجع الشفافية والمصداقية تماما فى مأساة الأميرة ديانا ومقتلها فى حادث بشع، نفذت العملية فى فرنسا، ورغم مرور أكثر من ثلاثين عاما لم يتكشف سوى قليل من المعلومات وبالمصادفة، لكن الانطباع العام انها عملية اغتيال تمت باحترافية عالية، اليقين باغتيالها دفع أحد ابنيها الى مغادرة بريطانيا ومقاطعة العائلة المالكة، وعبر عن مخاوفه من ان يتكرر معه ما حدث مع السيدة والدته، هل تتكشف المعلومات يومًا، أشك.
وتصلح بريطانيا ان تكون نموذجا لتغييب واخفاء الكثير من المعلومات، نحن كمصريين تحديدا، نعرف ذلك جيدًا، أحرقت بريطانيا العديد من وثائق الثورة العرابية، تحديدا الوثائق التى تثبت تورط بريطانيا المباشر فى افتعال الكثير من الازمات لاحتلال مصر عنوة سنة 1882، وهناك وثائق تتعلق بتلك الفترة محجوبة عنا تماما الى يومنا هذا.
تأمل دور بريطانيا فى تخليق جماعة حسن البنا المسماة «الاخوان المسلمين»، أسست السلطات البريطانية الجماعة واخترعت حسن البنا اختراعا لفرملة الحركة الوطنية المصرية التى تصر على الاستقلال ولتكون عونا لهم فى تنفيذ وعد بلفور الصادر سنة 1917، كان البنا وجماعته وفيا لدولة الاحتلال والتزم بما كلف به منهم، لذا تحظى الجماعة بحماية بريطانيا الى يومنا هذا.
ولنترك بريطانيا ونعود الى منطقتنا وآخر ما فيها الهجوم الاسرائيلى على العاصمة القطرية الدوحة ثم توجيه تهديد بتكرار الهجوم إذا لم تطرد قطر قيادات حماس، التهديد كان مبطنًا، على لسان المندوب الاسرائيلى فى مجلس الامن، خلال اجتماع المجلس لإدانة العدوان على الدوحة ثم جاء التهديد صريحا على لسان رئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتانياهو، مساء السبت.
وقع الهجوم على الدوحة، رغم العلاقات الثنائية الجيدة بين قطر وإسرائيل منذ عقود، واشتراك الدولتين معا فى العمل والتعاون فى عدد من الملفات أبرزها ملف حماس.
وحين استضافت قطر قادة حماس تم ذلك بترتيب مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع إسرائيل، ليكونوا قناة اتصال مع اسرائيل، فعلت قطر ذلك فى تكرار لنفس تجربة طالبان والولايات المتحدة، وإلى جوار ذلك تضم قطر أكبر قاعدة امريكية فى المنطقة هى قاعدة «العُدَيِّد»، وقد تم الهجوم الإسرائيلى ولم تتحرك القاعدة وهذا يعنى أنهم كانوا على عِلم وأن الهجوم تم بتنسيق تام.
حين تأسست القاعدة قيل إنها لحماية قطر من أى هجوم قد يقع عليها من أى دولة بالمنطقة، خاصة الدول الكبيرة بها، ولعله مَكْرُ التاريخ الذى تحدث عنه الفيلسوف الألمانى هيجل فقد تعرضت قطر لهجوم إيرانى هذا العام بسبب تلك القاعدة، والأسبوع الماضى تهاجم إسرائيل قطر على الأغلب، بتواطؤ من القاعدة الأمريكية.
الرئيس الامريكى دونالد ترامب، صاحب أعلى معدل من التصريحات المتناقضة أكد أنه عَلِمَ متأخرًا وكلف أحد معاونيــه بإبــلاغ القطــريين، لكن المســاعد المكلف، «سهى عليه» وأبلغ قطر بعد أن بدأ الهجوم.
حاول الرئيس ترامب استرضاء أمير قطر باتصال تليفونى،ثم اتصل بعدها مباشرةً برئيس الوزراء الاسرائيلى يطمئن منه على نجاح عملية الهجوم ،مما يجعلنا نتصور ان ذلك ضوء أخضر بتكرار محاولة الاغتيال.. عشرات المعلومات المتضاربة والمتناقضة، اخبار تنشر ثم يتم سحبها بعد دقائق، سحب الخبر لا يعنى أنه كاذب، بل انه لا توجد رغبة ولا موافقة على نشره، مثل أن الطائرات الأمريكية والبريطانية كانت فى سماء المنطقة لحماية الطائرات الاسرائيلية.
كيف حدث هذا الفشل، ومن قَدَّمَ المعلومة غير الصحيحة لإسرائيل، ومن كان المستهدف هل هو خليل الحية وحده ام كل الوفد؟
وما حكاية ذلك الشجار الحمساوى، الذى تبدى فى بعض الحسابات الفلسطينية، حول ان خالد مشعل زج باسمه فى العملية وروج مكتبه أخباراً عن استشهاده كى يعود مرة ثانية لقيادة حماس؟
عشرات رءوس موضصوعات متطايرة، لكن الواضح هو غياب تام للشفافية والمصداقية، لا معلومة واحدة يمكن الاطمئنان إليها.
المؤكد فى كل ذلك الدعم المصرى الكامل لدولة قطر الشقيقة، وقد عَبَّرَ عن ذلك الرئيس عبد الفتاح السيسى بوضوح تام، سواء فى اتصاله الهاتفى منذ أيام مع الأمير تميم أو خلال كلمته بالقمة العربية الإسلامية الطارئة أمس.. بما يعكس موقفاً مصرياً وخليجياً وعربياً قوياً وداعماً للدوحة.
المؤكد أيضا أن إسرائيل تُصِرُّ على حالة التوحش والعدوانية التى لديها منذ البداية، وبعض محلليها راحوا يهددون تركيا والرئيس التركى رجب طيب أردوغان.
مرة أخرى لا تصدق اننا نعيش عصر الشفافية والمصداقية أو المعلوماتية، انه عصر الاكاذيب الفجة، لم تعد الاكاذيب منمقة كما كان من قبل، أو ما كان يطلق عليه فى الريف المصرى «كدب مساوى»، لا تصدق ايضا ان الشفافية والمصداقية ودقة المعلومات سمة الدول الكبرى أو العالم الأول، هم الأشد غموضا واخفاء للحقائق والمعلومات.