مصر حائط الصد المنيع.. تكسر عجرفة «تل أبيب» فى كل مواجهة عسكرية أو سياسية
قتل الأبرياء فى غزة ليس إنجازًا.. وضرب إيران «ضجيج بلا طحن»
منذ اللحظة الأولى لقيام الكيان الإسرائيلى عام 1948، ارتسمت ملامح العجرفة فى سلوكه السياسى والعسكرى والإعلامي، وكأنها السمة الملازمة لوجوده. فقد تأسس على أنقاض شعب شُرّد من أرضه رغم الصمود، ورفض منذ البداية الاعتراف بالقرارات الدولية التى دعت إلى عودة اللاجئين أو وقف التوسع الاستيطاني، واعتبر نفسه استثناءً فوق القوانين والمعاهدات.ومع مرور العقود، تضاعف هذا الاستكبار عبر احتلال مزيد من الأراضى العربية، وتجاهل الإدانات الأممية، واستخدام القوة المفرطة فى مواجهة المدنيين، حتى تحوّل خطاب قادة الاحتلال إلى مزيج من التهديد والوعيد والادعاء بالقدرة على فرض الأمر الواقع بالقوة.
لم تقتصر هذه العجرفة والغرور على الجانب العسكرى فحسب، بل تجلّت فى التعامل مع المجتمع الدولى باعتبار أن الدعم الغربي، وفى مقدمته الدعم الأمريكي، صك براءة يتيح لها تجاوز كل الأعراف، وفى الإعلام الذى صور إسرائيل دوماً كضحية، بينما الحقائق على الأرض تروى قصة توسع ودمار وإفلات من العقاب.
هكذا، ومنذ قيامها، حاولت إسرائيل أن ترسى نموذجاً لدولة ترى فى نفسها «الاستثناء» الذى لا يُحاسب، غير عابئة بأن التكبّر مهما طال أمده لا يصنع نصراً دائماً، بل يفتح أبواب الهاوية والسقوط. لكن ما لم يدركه هؤلاء القادة أن الغطرسة لا تنتج إلا الكراهية والمقاومة، وأن الاحتلال مهما طال مصيره الزوال. ومع مرور السنوات، تحولت إسرائيل إلى دولة محاصَرة بالرفض الشعبى والدبلوماسي، ومثقلة بفشل متكرر فى كل الملفات التى رفعت شعاراتها الغليظة حولها.
غصة فى حلق الاحتلال
لم تكن إسرائيل يومًا لتجد طريقها ممهَّدًا فى المنطقة دون أن تواجه صخرة اسمها مصر،تلك الدولة التى شكّلت على الدوام الشوكة الحقيقية فى حلق الكيان، وكبحت جماح غروره واستعلائه. فقد جاءت حرب أكتوبر 1973 لتطيح بالأسطورة التى صدّرتها إسرائيل عن جيشها الذى لا يُقهر، ولتثبت أن هذا الكيان يمكن هزيمته متى توافرت الإرادة والقيادة. كان عبور القوات المصرية لقناة السويس لحظة تاريخية لم تسقط فقط أسطورة الجيش الذى لا يُهزم، بل أسقطت معها جزءًا من الهالة النفسية الكاذبة التى حاولت إسرائيل أن تفرضها على الشعوب العربية لسنوات. لقد كانت تلك الحرب بمثابة الكسر الأول لغرور الاحتلال، وجرس إنذار مدوٍّ بأن هذا الكيان مهما امتلك من سلاح ودعم دولي، فإنه يظل هشًا أمام إرادة الشعوب.
المرة الثانية التى اصطدمت فيها إسرائيل بجدار مصر الصلب كانت فى ميدان السياسة والدبلوماسية، حين حاولت الدفع بمخططات تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم، فى مسعى لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها. هنا لعبت القاهرة دور الحاجز القوي، ورفضت أن تكون بوابة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. كان الموقف المصرى واضحًا: فلسطين لأهلها، ولا تهجير ولا اقتلاع. بهذا الموقف التاريخى أجهضت مصر أوهام إسرائيل، وكسرت مجددًا صلفها السياسي، مؤكدة أن القضية الفلسطينية ليست قابلة للمساومة ولا للتصفية. ومنذ ذلك الحين ظلّت إسرائيل ترى فى مصر قوة تقيّد غرورها وتمنع تمددها، ما جعلها تحسب ألف حساب لأى خطوة فى المنطقة.
قطاع غزة .. شاهد دائم على الغطرسة
فى قطاع غزة، قدّمت إسرائيل المثال الأوضح على استكبارها العسكري. فعلى مدار العامين الماضيين وخاصة بعد السابع من أكتوبر 2023 أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو ومعها جنرالات الجيش أن القضاء على حركة حماس مسألة وقت قصير، وأن العملية العسكرية ستُنهى قدرة الحركة على إطلاق الصواريخ أو إدارة القطاع. لكن بعد مرور هذه المدة، لم يتحقق أى من الأهداف المعلنة.. بل كلما مرت الأيام زاد الفشل الإسرائيلى وارتفع معدل جنونها وارتكابها لجرائم أقل ما توصف به أنها تعبير عن الفشل، فما تحقق فعليًا حتى الآن هو سقوط آلاف المدنيين بين شهيد وجريح، وتدمير البنية التحتية، وتحويل غزة إلى كارثة إنسانية يشهد عليها القاصى والدانى يوميًا. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، تؤكد أن إسرائيل مارست سياسة العقاب الجماعى بحق أكثر من مليونى فلسطيني، وهو ما يمثل خرقًا صارخًا للقانون الدولى الإنساني.
لكن هل يعنى قتل المدنيين الانتصار؟ الحقيقة أن استهداف الأطفال والنساء والشيوخ دليل صارخ على الفشل الناتج عن الغرور، وأن مثل هذه الانتهاكات ما هى إلا تخبطات سياسية يحاول بها قادة الاحتلال صناعة نصر مزيف للنجاة من المحاكمة. هذا لم يضعف غزة وأهلها، بل زادهم صلابة، ورسخ مكانة القطاع كرمز عالمى للصمود، فيما حافظت المقاومة على قدراتها العسكرية وأثبتت ذلك عبر إطلاق الصواريخ وشن عمليات نوعية أربكت الحسابات الإسرائيلية.
لم تكتفِ إسرائيل بحربها على غزة، بل حاولت توسيع نطاق عملياتها إلى الخارج. ففى الدوحة، حيث يقيم بعض قادة حركة حماس، خططت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لاغتيال شخصيات بارزة، غير أن هذه العملية فشلت ولم تستطيع اغتيال من ارادتهم، ما شكل صفعة قوية للصورة التى طالما روجت لها إسرائيل عن تفوق جهازها الاستخباراتي.
تقارير صحف إسرائيلية مثل يديعوت أحرونوت وهآرتس أشارت إلى أن محاولات الاغتيال خارج الحدود لم تؤت ثمارها، بل أحرجت إسرائيل أمام المجتمع الدولى وأثارت استياءً دبلوماسيًا من بعض الحلفاء. هذا الفشل ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن تعرضت تل أبيب لفضائح مماثلة فى محاولاتها اغتيال قيادات المقاومة فى لبنان ودول أخري، ما كشف حدود قدراتها رغم الدعاية الضخمة حول جهاز «الموساد».

التعامل مع إيران سلسلة من الفشل
لم يتوقف الاستعلاء الإسرائيلى عند حدود فلسطين، بل امتد إلى إيران، حيث تعهد قادة الاحتلال مرارًا بالقضاء على برنامجها النووي. رئيس الوزراء وحكومته لم يتركوا مناسبة إلا وأعلنوا فيها أن «إيران لن تمتلك السلاح النووى أبدًا»، وأن إسرائيل قادرة على تدمير المفاعلات بضربة واحدة.لكن الواقع جاء معاكسًا تمامًا، فرغم الضربات التى شنتها اسرائيل على طهران فى الشهور الماضية واستهداف علمائها وقصف منشآتها بل وحتى تدخل امريكا بنفسها بتنفيذ ضربة لبرنامج ايران النووي، والحقيقة أنها لم تكن ضربة للمفاعل الذى لم يتأثر، بل ضربة لإنقاذ إسرائيل والحفاظ على سمعتها التى تضيع ولكن ظل المفاعل يعمل، بل وعاد الملف مجدداً إلى طاولة المفاوضات.
وكالعادة برز الدور المصرى والدبلوماسية الهادئة عندما تولت القاهرة الوساطة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، واحتضنت مصر مباحثات عميقة بين ايران ووكالة الطاقة الذرية تكللت بالنجاح وتم توقيع اتفاق يمهد لاستئناف التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بالملف النووى الإيران».
صحيفة واشنطن بوست أشارت مؤخرًا إلى أن إسرائيل «استنفدت كل خياراتها» وأن تهديداتها المتكررة لم تعد تُقنع حتى حلفاءها. هذا الفشل يعكس حدود الصلف، ويؤكد أن الشعارات العسكرية شيء، والقدرة على التنفيذ شيء آخر.
سوريا ولبنان حجر عثر
لبنان هى الأخرى شهدت فصلا من تجاوزات الاحتلال نتيجة الغطرسة والغرور، ومنذ اجتياح القوات الإسرائيلية للأراضى اللبنانية عام 1982، جسدت إسرائيل واحدة من أبشع صور التجبر العسكري. فقد دخلت بيروت بالدبابات تحت شعار «إخراج منظمة التحرير الفلسطينية»، واعتقدت أنها ستفرض واقعًا جديدًا كما تزعم دائما. لكن الأمر انتهى بوصمة عار، إذ اضطرت قواتها للانسحاب تحت ضربات المقاومة اللبنانية، وهو ثانى انسحاب إسرائيلى من أرض عربية بفعل المقاومة المسلحة لا بفعل التفاوض، كما اجبرتها مصر على الانسحاب من اراضيها المحتلة.
وفى حرب 2006 فى لبنان ايضا، عادت نغمة التعالى الإسرائيلية لتتصدر المشهد. فقد أعلن قادة تل أبيب أن الحرب لن تستمر أكثر من أيام معدودة، وأنهم قادرون على «سحق حزب الله» وتدمير بنيته التحتية. غير أن الحرب استمرت 33 يومًا، وانتهت بفشل ذريع عسكريًا ومعنويًا، إذ لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها.
صحيفة هآرتس وصفت تلك الحرب بأنها «الحرب التى فشلت فيها إسرائيل فى فرض شروطها على الطرف الآخر»، فيما اعتبر تقرير لجنة فينوجراد الإسرائيلية أن القيادة السياسية والعسكرية وقعت فى «أوهام الصلف والاندفاع غير المحسوب.
فى سوريا أيضًا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، تصورت إسرائيل أنها أصبحت صاحبة اليد العليا فى الساحة السورية، وأن غياب السلطة المركزية القوية سيفتح لها الباب لتكريس التسلط عبر الغارات الجوية المتكررة، مثلما حدث فى ريف دمشق والسويداء وغيرهما من الأراضى السورية. كما كثفت تل أبيب ضرباتها ضد المطارات والمخازن والمراكز العسكرية، وروّجت عبر إعلامها أنها «تمسك بزمام المبادرة» وتتحكم بمسار الصراع السوري، غير أن هذا الاستكبار لم يحقق لإسرائيل ما أرادته.
الغطرسة الإعلامية
لم تقتصر عجرفة الاحتلال الإسرائيلى على الميدان العسكرى أو السياسي، بل امتدت لتشمل الإعلام الذى سخّرته الحكومات المتعاقبة كسلاح لا يقل خطورة عن الطائرات والصواريخ. فمنذ قيام الكيان، اعتمدت إسرائيل على آلة دعائية ضخمة لتسويق نفسها أمام العالم باعتبارها «الضحية الدائمة»، بينما تصوِّر الفلسطينيين والعرب فى صورة المعتدى والإرهابي. هذه المعادلة المقلوبة لم تكن مجرد رواية إعلامية عابرة، بل كانـت سياســة ممنهجـــة صاغتهـــا مراكــز القرار فى تل أبيب، وروّجتها عبر كبرى المؤسسات الإعلامية الغربية التى تبنّت خطاب الاحتلال دون تمحيص.
أحد أبرز الأمثلة على الادعاء الإعلامى تجلّى فى حرب غزة الأخيرة، حين أعلنت إسرائيل أنها تخوض معركة «الدفاع عن النفس»، متجاهلة حقيقة أنها القوة القائمة بالاحتلال، وأنها هى التى بدأت العدوان. وفى الوقت الذى كانت صور آلاف الشهداء من المدنيين ـ أغلبهم نساء وأطفال ـ تملأ الشاشات، خرج المتحدث باسم جيش الاحتلال ليقول للعالم إن الجيش «الأكثر أخلاقية فى العالم» لا يستهدف المدنيين! هذا التناقض الصارخ بين الواقع والدعاية لم يكن سوى وجه من وجوه الاستعلاء الإعلامى الذى يحاول طمس الحقيقة وتزييف الوعي.
كما برزت آلة الكذب الإعلامية الإسرائيلية فى محاولات تصوير اغتيالات القادة الفلسطينيين على أنها «إنجازات أمنية»، بينما الحقيقة أنها جرائم خارج نطاق القانون الدولي. وحتى عندما فشلت محاولاتها فى الخارج ـ كما حدث فى الدوحة خلال محاولة استهداف قادة حماس ـ حاول الإعلام العبرى تحويل الفشل إلى «رسالة قوة» لإسرائيل، فى مشهد يكشف انفصامًا واضحًا بين الخطاب الإعلامى والواقع الميداني.
لقد تحوّل الإعلام الإسرائيلى من مجرد أداة لنقل الأخبار إلى آلة دعائية استعلائية تحاول نشر أكاذيب الغرور وفرض روايتها بالقوة، متجاهلة كل المعايير الأخلاقية والإنسانية، لتثبت أن الغطرسة الإسرائيلية ليست فقط فى ميادين الحرب والسياسة، بل أيضًا فى فضاء الكلمة والصورة.
بداية النهاية
لم تعد دولة الكذب الإسرائيلية مقبولة دوليًا كما كانت فى السابق. فقد أعلنت عدة دول غربية نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، فى خطوة تمثل صفعة سياسية كبيرة لتل أبيب. كما أن المحاكم الدولية بدأت تنظر فى قضايا جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل فى غزة.
حتى الولايات المتحدة، الحليف الأقرب، لم تعد قادرة على تبرير كل ما تقوم به إسرائيل. تقارير من واشنطن بوست وسى إن إن تشير إلى أن الإدارة الأمريكية تتعرض لضغوط داخلية وخارجية بسبب دعمها غير المشروط لتل أبيب، وأن الرأى العام الأمريكى بات أكثر انقسامًا تجاه إسرائيل.
كل تلك التجاوزات لم تُنتج سوى أزمات داخلية متفاقمة. فالمجتمع الإسرائيلى يعيش حالة انقسام غير مسبوقة، بين معسكرات سياسية متناحرة، واحتجاجات واسعة ضد حكومة نتنياهو، خاصة بعد فشلها فى إنهاء الحرب وتحقيق الأمن. بحسب هآرتس، فإن استطلاعات الرأى الأخيرة أظهرت تراجع ثقة الجمهور بالحكومة إلى أدنى مستوى منذ عقود، فيما اعتبر محللون أن استمرار الحرب دون نتائج ملموسة يسرع من «تآكل صورة الردع الإسرائيلية.
إن ما تعيشه إسرائيل اليوم ليس إلا غرور سيؤدى حتماً إلى بداية الهاوية. فالعجرفة التى تأسست عليها الدولة لم تعد قادرة على إخفاء الحقائق: فشل عسكرى فى غزة، فشل استخباراتى فى الخارج، فشل سياسى فى إيران، وأزمات متصاعدة فى الداخل والخارج. التاريخ يعلمنا أن كل قوة قامت على الاحتلال والعدوان والاستعلاء كان مصيرها السقوط، وإسرائيل ليست استثناءً.
بل إن المؤشرات كلها تدل على أن التكبّر بات عبئًا عليها أكثر من كونه مصدر قوة. فبدلاً من إخضاع الشعوب، أيقظ روح المقاومة فى غزة والضفة ولبنان، وبدلاً من كسب الشرعية الدولية، عززت عزلتها، وبدلاً من تحقيق الأمن لمواطنيها، زادت من شعورهم بالخوف والتهديد. إنه مسار السقوط الحتمى الذى قد يتأخر لكنه لن يُلغي. إسرائيل اليوم تقف على حافة الهاوية، وصلفها هو الذى يدفعها بخطوات متسارعة نحو النهاية.. وإذا كانت إسرائيل تجد فى كل مرة من ينقذها من الغرق، وهى الولايات المتحدة، فإن هذا لن يدوم، ونهايتها المؤكدة السقوط.