قبل مقتله بأسابيع قال لمقرّبين: «إسرائيل قد تقتلنى».. تحوّل من مدافع عنها إلى ناقد لها
رفض دعوة «نتنياهو» لزيارة «تل أبيب».. وتراكمت أسئلته حول نفوذها فى الداخل الأمريكى
تحويل العملية إلى «حائط مبكى».. هل يقلّل الأصوات الناقدة مؤقتًا أم يهدّد الشراكة مع واشنطن؟
القطاعات الاقتصادية والأمنية ستتضرر إذا تغيّرت العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية..
هكذا يروّج وكلاء «تل أبيب» لتحسين موقفها

تحليل : أحمد بديوى
كانت العيون معلقة، والكاميرات مسلّطة.. شاب يجلس أمام حشد طلابي في جامعة «يوتا».. يوزّع ابتسامته المعتادة على جمهوره.. تنطلق طلقة قاتلة، تصيبه في رقبته مباشرة.. الدماء تندفع بغزارة.. تشارلي كيرك «31 عامًا» يسقط قتيلًا.. ارتجف المشهد.. الارتباك يحوّل الهدوء إلى عشوائية.. سرعة مغادرة المقاعد جسدت الفوضى.. الآلاف يندفعون في كل اتجاه.. صراخ، هرولة، وهواتف مرفوعة توثّق اغتيالًا علنيًا، لشخص مؤثر عاش حياته في قلب الشهرة والأضواء.
صورة مكثفة لزمن أمريكي– إسرائيلي مأزوم.. قبلها بأسابيع، كان «كيرك» يضحك بمرارة وهو يقول لمقرّبين منه: «إسرائيل قد تقتلني».. لم تكن نكتة.. كان يدرك أنه يقترب من الخط الأحمر.. قالها بوعي من يقرأ في سجل اغتيالات طويلة.. كان يعرف أن الخروج من بيت الطاعة الإسرائيلي مكلف جدًا.. الشاب الذي اعتاد الدفاع عن «تل أبيب» وجد نفسه في لحظة فاصلة يقف ضدها.. يصف عدوانها على قطاع غزة بالإفراط في العنف.. راح يدعو إلى إعادة النظر في الدعم الأمريكي غير المشروط لها.
رفض دعوة رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، لزيارة إسرائيل.. بدا كأن «كيرك» يغلق الباب الأخير للمصالحة.. في أمريكا، قد تتجرأ شخصيات شهيرة على كسر تقاليد دعم «الاحتلال»، عندها تتحرك الخلايا النائمة: لوبيات الإعلام والمال والاستخبارات، لحسم الموقف.. في حالة المؤثر الأمريكي «كيرك» لم يكن الأمر مفاجئاً، بل كانت له مقدمات.. كان نتيجة مرتقبة لعودة الوعي له. تراكمت أسئلته قبل شهور عن النفوذ اليهودي في السياسة الأمريكية.. أعاد فتح ملفات جدلية.. خاض في سيرة «جيفري إبستين» وشبكاته الغامضة.
عرّاب التجارة في البشر، «جيفري إبستين»، كان مرتبطًا بشكل غير مباشر بشبكات نفوذ استخباراتية، ربما كان «الموساد» الإسرائيلي من بينها.. كان يوظّف مئات القاصرات للإيقاع بشخصيات عالمية في مجالات عدة.. في 10 أغسطس 2019، وُجد مشنوقًا في زنزانته.. جرأة «كيرك» دفعته للبحث فيما يجري في الظل.. طرح مثل هذه الأسئلة في فضاء علني يعني الاقتراب من محرمات ليس مسموحًا المساس بها، أو التسامح مع من يطرحها.. لكنه فعلها.. لم يتعاطف مع استخدام تهمة «معاداة السامية» في تكميم الأفواه..التحذيرات كانت واضحة: «إذا ظل كيرك هكذا، سيواجه اليمين الأمريكي مشكلة معاداة السامية في الانتخابات المقبلة».
خلف الحزن اليهودي المصطنع على «كيرك» كان هناك قهر كبير لانتقاله من مربع دعم إسرائيل إلى الوقوف ضدها. في تل أبيب، تظاهر «نتنياهو» بالصدمة والحزن لزوم نفي الشبهات، وقال: «أصلي من أجل كيرك»، يشبه من «يقتل القتيل ويمشي في جنازته». رأيه أن «كيرك قُتل لأنه يقول الحقيقة»، لكنه لم يفسّر أي حقيقة يقصد؟ أهي حقيقة أن اليمين الأمريكي تسربت إليه شكوك في إسرائيل؟ أم حقيقة أن الصوت الذي يتحول من مدافع عنها إلى ناقد لها يصبح عبئاً يجب التخلّص منه؟ جهاز «الموساد» شعاره «بالحيلة تُحارب»، وأجواء مسرح الجريمة في حرم جامعة «يوتا» تشير بأصابع الاتهام إلى المستفيد. فهل الدولة الخبيرة في أساليب الاغتيالات ليست حاضرة في إنهاء حياة «كيرك» حليفها السابق؟
إسرائيل كانت في مأزق.. صورتها تتآكل شرقاً وغرباً.. حرب غزة عمّقت الشروخ.. الانتقادات تتصاعد.. الدماء التي تسيل يومياً تفاقم الكارثة وتجعل حكومة نتنياهو عبئاً على نفسها وعلى حلفائها.. أوساط سياسية كانت يوماً معقلاً للدفاع عنها لم تعد كذلك.. صدى التحول النسبي لـ«كيرك» تعددت سيناريوهاته في إسرائيل.. بقاءه ناقداً يخاطب ملايين الشباب المحافظ في الداخل الأمريكي أكثر خطورة؟ تغييبه المفاجئ أقل كلفة.. «كيرك» كتب نهايته بموقفه، لم يترك مجالاً للخيال، واغتياله كان مختلفاً، كان نبوءة شخصية، والنبوءات حين تتحقق تتحول إلى أساطير، والأساطير تعيش أطول من أصحابها.
كان المستوى السياسي على قناعة بأن قلة محدودة في أمريكا ستجرؤ على ذكر اسم إسرائيل علانية. «نتنياهو» على دراية بأن اللوبي الصهيوني «أيباك وأخواتها» يعرف كيف يحمي الكيان. إسرائيل لا يشغلها دم «كيرك»، بل توظيف تداعياته وتحويل اغتياله إلى «حائط مبكى» يحد من الأصوات الناقدة، مؤقتاً. بمجرد سقوط «كيرك» قتيلاً، كثر الصاعدون على مسرح نفي الشبهات وتسويق الرواية المتفق عليها. وزراء متطرفون في حكومة الاحتلال قالوا: «نشعر بالصدمة»، فيما ندد «مجلس الشئون العامة اليهودي» بالعنف قائلاً: «لا مكان له في السياسة أو المجتمع الأمريكي».
حاخامات يدخلون على خط الأحداث لمزيد من التمويه: «كيرك، حليف لإسرائيل. مدافع شجاع عن شعبنا».. نشطاء يهود يدعون أنصارهم للصلاة من أجله.. تكثيف المفردات التحريضية ضد الغير: التطرف الداخلي.. خطر اليسار.. الإرهاب الإسلامي!».. ترسيخ سريع للعناوين المطلوبة: «الاغتيال السياسي.. الجريمة البشعة.. المأساة الوطنية».. حملات العلاقات العامة الجاهزة والمُنسّقة توجّه اللوم إلى «متطرّفين محلّيين».. إعلام مأمور، ومنظّرون سياسيون يحذّرون من «الانقسام» لقطع الطريق على أصابع الاتهام.. يعرفون في إسرائيل أن الاغتيال في أمريكا لا يبقى اغتيالاً.. يتحوّل سريعاً إلى مادة لخطاب أمني.. إلى إجراءات استثنائية.. ويحاولون تصوير «كيرك» كـ«ضحية.. كانت تدعم إسرائيل».
طريق الشبهات
قبل أن يُعاقَب على قناعاته الجديدة وانحيازه للحقيقة، كان «كيرك» واحداً من أشد المدافعين عن إسرائيل.. كان من ألدّ أعداء الشعب الفلسطيني حتى فترة قريبة. خلال ثلاثة عشر عاماً فقط، تحوّلت مؤسسته الطلابية المحافظة «تيرنينج بوينت يو إس إيه» إلى ما يشبه «إمبراطورية ظل» تمددت وسط ثلث الجامعات الأمريكية «الإجمالي وفق مركز الإحصاء التعليمي الأمريكي: 3982 مؤسسة تمنح درجات جامعية».. اتسعت أنشطة المؤسسة بين آلاف المدارس الثانوية.. انتقلت من هوامش السياسة إلى قلبها عبر شبكة واسعة من العلاقات.. ارتفع دخلها إلى عشرات الملايين من الدولارات.
تأسست «تيرنينج بوينت» عام 2012 في شيكاغو كجمعية خيرية معفاة من الضرائب تخفي هوية المانحين.. أثرياء استثمروا في «حرب ثقافية» وإعادة هندسة الوعي السياسي الأمريكي.. ظل النشاط المالي للمؤسسة خارج مظلة قانون الضرائب الفيدرالي.. بفضل الدعم والحماية، أصبحت قوة سياسية تتجاوز القانون والرقابة.. لا يُلزم القانون الجمعيات غير الربحية بالكشف التفصيلي عن مصروفاتها.. منذ عام 2016 جمعت المؤسسة حوالي 250 مليون دولار «وفق بيانات محلية». ومع تدفق الأموال اشترى «كيرك» قصراً بقيمة 4.75 مليون دولار في أريزونا، إضافة إلى شقق في مناطق أخرى.. ظلت الشبهات تحوم حول أنشطة المؤسسة «توسعت أكثر فأكثر، أنشأت جمعيات وشركات ولجان عمل سياسي».. ردّ «كيرك» الجميل بالمساهمة في حصول الجمهوريين على أغلبية في الكونجرس، وقبله حسم مقعد الرئاسة لترامب.
الأزمة أن مكانة «كيرك» تتجاوز مسمّى الناشط.. هو رمز لشريحة كبيرة ممن هم في سنّه: أسلوبه، حضوره، منابره.. كان في الفترة السابقة لنهايته يمثّل شباباً يريدون استعادة أمريكا من «النفوذ الخارجي».. لم يقدّم نفسه كسياسي تقليدي، بل «محارب ثقافي» يبشّر جمهوره بنهاية نظام قديم وصعود آخر.. كان يرى الجامعات معاقل خراب، والإعلام أبواق تضليل، والهجرة تهديداً وجودياً.. كان يعتبر أي إصلاح اجتماعي أو اقتصادي داخلي «ماركسية» تهدد الهوية الأمريكية.. تبنّى قضايا الأمريكيين البيض، عارض الحد من حمل السلاح الشخصي، وتمسّك بعدم فصل الكنيسة عن الدولة في السياسة والدين والإعلام والأعمال والأسرة والتعليم والفنون والترفيه.
كان «كيرك» يقود جيلاً محافظاً بدأ يشكّك في «مكانة» إسرائيل.. ولم يعد دعمها بديهياً داخل تيار اليمين الأمريكي.. هذا التحوّل جعله هدفاً، واغتياله تحذيراً. العملية «بعيداً عن كبش الفداء الذي سيُقدَّم، سواء كان تايلر روبنسون، أو غيره» تفتح باب التساؤلات: هل تصفية الحليف السابق لإسرائيل ستفتح جبهة جديدة في الداخل الأمريكي؟ هل باتت المؤسسات عاجزة عن حماية الرموز؟ وهل سيعيش كل سياسي تحت تهديد دائم بسبب لوبيات خفية تملك القدرة على إملاء من يعيش ومن يموت؟
هذه القناعة أخطر من الرصاصة نفسها.. تزرع بذور الشك.. الرصاصة أصابت الثقة، أصابت صورة كانت تبدو صلبة فإذا بها هشّة.. المعادلة ستصبح أكثر خطورة في ظل الصراع السياسي الداخلي.. عدائيات ترامب كثيرة.. اغتيال «كيرك» الذي توقع مصرعه سيغذّي نظريات المؤامرة.. فيديو لحظة الاغتيال، الذي يُعاد بثه ملايين المرات، لا ينفصل عن توقعات «كيرك».. المشهد وهو يسقط يعكس عصراً أمريكياً يترنّح بين سطوة مراكز القوى وغضب الأجيال.. دولة عظمى تبحث عن عدو خارجي، بينما يفتك بها عدو داخلي متغلغل في كل المؤسسات.
ترامب «الذي حاول إظهار صدمته ووصف ما حدث بأنه: ظلام يهدد الديمقراطية»، يعرف أن الجريمة تحمل بصمات حرب أعمق.. جهات التحقيق في مقتل «كيرك» على قناعة بأن القضية ليست تقنية فقط.. التحقيق الأولى، يتحدث عن «فاعل منفرد».. صيغة مكررة في أمريكا كلما أرادت السلطات تهدئة الرأي العام. لكن الأحاديث الجانبية تذهب إلى ما هو أبعد: علاقات متشابكة، جماعات ضغط، وأجهزة استخبارات لها باع طويل في الاغتيال النظيف والمكشوف في توقيت واحد.
مؤسسات تعرف كيف تزرع الرصاصة وتزرع معها رواية رسمية تسد كل ثغرة.. الذاكرة الأمريكية تعرف جيداً مشاهد مشابهة، تتشابك فيها خيوط الاستخبارات والمال والولاءات العابرة للحدود.. عشرات الملفات أُديرت هكذا من قبل.. لكن الشارع الأمريكي لم يعد كما كان.. جيل جديد لا يثق بالإعلام التقليدي.. يقرأ بين السطور.. يتابع المنصات البديلة.. سيرى في اغتيال «كيرك» تفسيراً لسلسلة طويلة: جون كينيدي، مارتن لوثر كينغ، مالكوم إكس.. كلها رسالة مزدوجة: تجاوز توازنات الداخل أو التشكيك في العلاقة مع إسرائيل ثمنه معروف.
في 22 نوفمبر 1963، وُجّهت تهمة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق «جون كينيدي» إلى «هارفي أوزوالد».. عملية دموية استهدفت وقف مسار التهدئة مع الاتحاد السوفيتي، وإجهاض حل عادل للقضيــة الفلسطينية.. تم تغيير مسار موكبه، وبعد مقتله تم التخلــص من القاتــــل ومن قاتله «جاك روبي» بؤامرة مرضية.. بعدهــــا بعامين، لقي «مالكوم إكس» حتفه في 21 فبراير 1965 خلال مؤتمر بنيويورك.. دبّروا له مشاجرة مفتعلة لإلهاء الحضور.. 16 رصاصة أجهضت مساعيه للتغيير الاجتماعي والسياسي في أمريكا حينها.. لم يختلف مشهد اغتيال «كيرك» عن تغييب «مارتن لوثر كينج» في 4 أبريل 1968.. تجسّسوا عليه أولاً، حاولوا تشويه سمعته ثانياً، قبل تكليف «جيمس إيرل راي» بتغييبه تماماً عن المشهد ببندقية قنّاصة.
ظاهرة دموية
أمنيّاً، قد يُغذّي الاغتيال ظاهرة دموية.. أمريكا بلد السلاح الشخصي.. أكثر من 300 مليون قطعة في أيدي المواطنين.. الشراء متاح بلا ضوابط.. كأنها «كلمة السر». سأل أحدهم «كيرك» عن العنف المسلح وحوادث إطلاق النار الجماعي في الولايات المتحدة.. تزامنت الإجابة مع رصاصة قنّاص سيظل مجهولاً «رغم الاسم الذي ستعلنه السلطات».. كل دمٍ يسيل يفتح شهية دمٍ آخر.. في هذه الدوامة لا أحد يعرف من يربح ومن يخسر.. أمريكا بلد الغضب والتاريخ الطويل من العنف السياسي.
سيرة الحرب الأهلية لا تزال حاضرة.. العنف السياسي تصاعد بشكل مخيف خلال العامين الماضيين: اغتيلت النائبة الديمقراطية، ميليسا هورتمان، وزوجها في مينيسوتا على يد مسلّح تنكّر في زي شرطي.. وصف حاكم الولاية، تيم والز، الجريمة بأنها «اغتيال سياسي مدبَّر».. كشفت التحقيقات أن القاتل «فان بويلتر» كان يحمل قائمة بأسماء أكثر من أربعين مسئولاً ديمقراطياً، بينهم الحاكم وزعماء في الكونجرس.. تم إشعال النار في موكب بكولورادو.. استهدف حريق منزل حاكم بنسلفانيا.. تم إطلاق النار على ترامب خلال تجمع انتخابي العام الماضي.. كل حادثة تزيد من حدة الانقسامات وتكشف هشاشة المشهد أمام التطرف العنيف.
ستتعلق الأنظار بالبيت الأبيض.. الإدارة الأمريكية ومستشاروها في موقف حرج.. المعنيون بملف الأمن القومي سيضغطون لخطاب يطمئن الداخل ويمنع اتساع رقعة الشكوك.. مبادرة ترامب بتوجيه السهام مبكراً ضد «خطاب اليسار المتطرف» مجرّد عنوان، تماماً كسرعة اتهام المُسن، مايكل مالينسون «عضو الحزب الديمقراطي في ولاية يوتا»، بزعم أنه «قنّاص سابق في الجيش ومن مؤيدي فلسطين».. التحقيقات عندما تظللها حيل السياسة تطول.. الرواية الرسمية لن تكفي لإشباع المتعطشين للخلاص من سطوة العدو الخارجي فيما العدو الداخلي أكثر خطورة.. الحقيقة ستظل معلّقة في الهواء، يقرأها كل طرف على طريقته، فهشاشة النظام أوضح من التلاعب الإعلامي والسياسي وتقديم قرابين فداء للعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية.
اغتيال «كيرك» مأزق أمريكي، لحظة انكشاف أمني وسياسي وإنساني، لحظة ستظل تُستخدم كدليل وتحذير ومرآة لعصر أمريكي يكتشف أن حلفاءه قد يكونون أيضاً ألد أعدائه.. الكل يعرف أن أمريكا حين تضعف من الداخل يزداد هامش المناورة للجميع، والجريمة مهما حاولت واشنطن احتواءها تظل شاهداً على تصدعات عميقة بين جيل قديم متمسك بإسرائيل وجيل جديد يراها عبئاً، بين دولة تقول إنها «ديمقراطية» وواقع مرتبك تعكسه عملية الاغتيال. صورة «كيرك» وهو يسقط ستفرض نفسها على المشهد، ولن ينساها الطلاب شهود الواقعة.
>>>
لا تعترف إسرائيل بالنصح ولا تتعاطى الإرشاد.. تستلهم أجهزتها الاستخباراتية تجارب الآباء المؤسِّسين.. الحسم الدموي يتماشى مع نهج «صراع الوجود» مع الخصوم والأعداء على السواء.. اللعبة تتواصل.. اغتيال «كيرك» قد ينجح في إسكات بعض المعترضين، لكنه قد يوقظ ملايين آخرين.. وسائل التواصل لا ترحم.. فيديو الجريمة ينتشر كالنار في الهشيم.. يتحوّل إلى أيقونة ستُطارد الجميع، مهما كانت المهدئات وأساليب التخويف اليهودي.. يربطون فكّ الارتباط مع إسرائيل بفراغ ستستغله قوى أخرى كالصين وروسيا لإعادة تشكيل تحالفات لا تخدم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
مجموعات الضغط المؤيدة للاحتلال لا تكتفي بالتحرُّك داخل الكونجرس أو مراكز التفكير ووسائل الإعلام.. تمتد أدواتها إلى السينما وشركات العلاقات العامة.. تستخدم سلطتها في التأثير السياسي المباشر وغير المباشر «أزمات سياسية محتملة، انشقاقات حزبية، تشكيل أحزاب جديدة تسحب البساط من تحت أقدام خصوم تل أبيب».. المقترح الحزبي لإيلون ماسك يثير القلق لدى الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.
القطاعات الاقتصادية والأمنية ستتضرر إذا تغيّرت العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية.. هكذا يروّج وكلاء تل أبيب لتحسين موقفها: «توفّر وصولاً إلى شبكات استخباراتية إقليمية وجمع معلومات حيوية، تتعاون تكنولوجياً وقتالياً، وتعزّز قدرة الولايات المتحدة على رصد التهديدات».. على صعيد الشراكات الصناعية والعسكرية وتبادل التكنولوجيا «الأمن السيبراني، الطب، الزراعة» هناك فوائد واضحة للشركات وعقود ضخمة للصيانة والتطوير.. التخلي المفاجئ عن هذه العلاقة أو خفض مستوى الشراكة سيكون مكلّفاً ويعرّض مصالح مشتركة للخطر.. هذا ما تؤكده مراكز الضغط الداعمة لإسرائيل دون مواربة.
واشنطن ستستمر في شراكتها مع تل أبيب، المصالح أعمق من أن يهزّها اغتيال «كيرك» مهما كانت مكانته.. المال والسلاح والنفوذ خيوط متينة تشدّ الإدارتين معًا، لكن التاريخ يعلّمنا أن الشرخ يبدأ دائمًا صغيرًا؛ لحظة واحدة كفيلة بأن تغيّر مسارًا طويلًا.. اغتيال «المؤثر» الأمريكي قد يكون هذه اللحظة، ودماؤه ستتحوّل إلى رواية تسبق سرعة أي بيان رسمي في رقع الصدع.. إسرائيل تبدو كمن يربح معركة ويخسر حربًا.. ترامب نفسه عليه أن يراقب المشهد بعين السياسي المخضرم.. اغتيال «كيرك» قد يتحوّل إلى وقود انتخابي يضعه في مأزق.. البلاد ليست حصنًا منيعًا، بل مسرح تُدار فيه عمليات تصفية بدمٍ بارد.
لن تفلح الجنازة شبه الرسمية لـ«تشارلي كيرك» في الإقناع بعكس ذلك: لا النعش المحاط بأعلام أمريكية، ولا كلمات الرثاء المتوترة، فالسياسيون الذين يقرأون النصوص المكتوبة لهم عن «التضحية.. المأساة.. وضرورة الوحدة» لن يقنعوا حتى أنفسهم؛ يعرفون أنها عبارات بروتوكولية جافة، لأن عملية الاغتيال أكبر من جريمة عابرة، بل منعطف رئيسي.









