مع توجه أكثر من نصف مليون ناجح فى الثانوية العامة إلى اختيار مقاعدهم الجامعية، شهدت منصات التواصل الاجتماعىى سباقاً تسويقياً غير معهود بين العديد من كليات الجامعات المختلفة لجذب الطلاب من أجل الالتحاق ببرامجها المختلفة.
فيديوهات وصور دعائية مبهرة تتوالى بلا توقف عن قاعات دراسية حديثة، مختبرات ومعامل مجهزة، موسيقى حماسية، وشعارات براقة تعد بمستقبل مشرق. حيث ينتمى معظم هؤلاء الطلاب إلى “الجيل ذى” Gen-Z والذى يعد جيلاً ولد فى بيئة رقمية متكاملة تشكل منصات التواصل الاجتماعى بالنسبة له المصدر الأساسى للحصول على المعلومات واتخاذ القرار. هذه الطبيعة الرقمية تجعلهم أكثر تأثراً بالمحتوى البصرى السريع، وهو ما يفسر اقبال المؤسسات التعليمية على الاستثمار المكثف في هذه الحملات لاستقطاب انتباههم. فى هذا الخضم من الفرص المتاحة يجد ولى الأمر والطالب نفسه أمام إعلانات فى كثير من الأحيان متشابهة إلى حد التطابق فى بعض الحالات، والتى يصعب معها التمييز بين برنامج أكاديمى وآخر.
خلف هذا المشهد المبهر تكمن استراتيجيات تسويقية تقوم على تقديم مزيجاً من التسويق التعليمى، وإدارة العلامة المؤسسية، مدعومة بـالمحتوى البصرى القصير والتسويق العاطفى، إلى جانب ظاهرة “محاكاة أو تقليد المنافس” حيث أصبح هناك سباقاً محموماً فى تقليد المؤسسات التعليمية بعضها البعض فى الأسلوب والمضمون.
إن التحليل المتعمق لمحتوى هذه الإعلانات يشير إلى أنها عادة ما تعتمد على أربعة أساليب رئيسية وهى “المصداقية البصرية” عبر إظهار طلاب حقيقيين في بيئات مختلفة لخلق الثقة لدى الطالب وولى الأمر. “الأصالة والتفاعلية” من خلال عرض محتوى حقيقى يعكس قيم وتاريخ المؤسسة التعليمية مع اشراك الخريجين أو رجال الأعمال أو بعض ممثلى المنظمات المهنية فى الحدث من خلال سرد قصص نجاح واقعية. “التنويع فى صياغة المحتوى المقدم” والجمع بين أكثر من شكل من أشكال المحتوى مثل النصى، والمرئى، وقصص النجاح واستطلاعات الرأى وغير ذلك لجذب الانتباه واحداث الفارق. “التسويق الحوارى أو التشاركى” – وليس التسويق أحادى الطرف – من خلال التفاعل المباشر بين ممثلى المؤسسة التعليمية (مسئولى البرامج أو الكليات المختلفة) والطلاب وأولياء الأمور والرد على الاستفسارات.
وعلى الرغم من أهمية المعلومات التى تقدمها تلك الحملات التسويقية، إلا أن التشابه الكبير بينها يبرز الحاجة إلى ضرورة وجود آلية أو مرجعية عملية تساعد الطالب وولى الأمر على تقييم البرامج الأكاديمية بعيداً عن الإبهار التسويقى. هذه المرجعية أو الآلية يمكن أن تضم عشرة معايير أساسية:
- أولاً: ضرورة التعرف على الاعتماد الأكاديمى للبرنامج الدراسى من قبل المجلس الأعلى للجامعات أو هيئات دولية أخرى معترف بها.
- ثانياً: التأكد من مدى توافر الشراكات المحلية والدولية وفرص التدريب الموثقة مع مؤسسات وشركات.
- ثالثاً: مدى كفاية وكفاءة أعضاء هيئة التدريس.
- رابعاً: حداثة وكفاية مقومات البنية التحتية من مدرجات وقاعات دراسية وأجهزة ووسائل تعليمية ومعامل ومكتبات.
- خامساً: مدى ارتباط المناهج الدراسية المقدمة باحتياجات سوق العمل ومواكبتها للمهارات المستقبلية.
- سادساً: الاطلاع على بيانات التوظيف الموثقة للخريجين والتعرف على قابلية الخريجين للتوظيف من خلال تصفح البيانات المنشورة على مواقع هيئات التصنيف الدولى.
- سابعاً: ملائمة المصروفات الدراسية وشروط الحصول على المنح الدراسية.
- ثامناً: مدى جودة البيئة أو الحياة الجامعية من ضرورة توافر الدعم الأكاديمى والنفسى والأنشطة الطلابية.
- تاسعاً: مدى التميز الفعلى للبرنامج الدراسى المقدم مقارنة بما تقدمه الكليات الأخرى من برامج مشابهة.
- عاشراً: السمعة العلمية والمهنية على المستوى المحلى والدولى للمؤسسة التعليمية التى سوف يتم الالتحاق بها.
ولتحويل هذه المعايير إلى قرار عملى، يجب على الطالب وولى الأمر القيام بزيارة الجامعة أو الكلية والتحدث مع طلابها وممثلى أعضاء هيئة التدريس والإدارة إن أمكن، مع طرح أسئلة محددة عن فرص التدريب والتوظيف، ومراجعة البيانات الرسمية على مواقع المجلس الأعلى للجامعات ووزارة التعليم العالى، ثم مقارنة الجامعات بنفس الأسئلة والمعايير للحصول على صورة دقيقة قبل اتخاذ القرار المناسب.
من الأهمية بمكان بذل الجهد كبير فى التحقق مما سبق لأن قرار التحاق الطالب بإحدى الجامعات أو البرامج هو قرار مصيرى يحدد مساره الأكاديمى والمهنى لسنوات وربما لعقود. هذا الاختيار يجب النظر إليه على انه قرار استثمارى طويل الأجل، يتضمن استثماراً للوقت والجهد والموارد المالية، ويؤثر على نوعية المهارات المكتسبة وفرص التوظيف المستقبلية.
ومن ثم فإن القرار غير المناسب قد يعنى التضحية بسنوات من إعادة التوجيه أو مواجهة الخريج لفجوة المهارات فى سوق العمل، بينما الاختيار السليم يمهد الطريق لفرص واعدة يمكن أن تحقق عائداً مهنياً مستداماً.
في كثير من الأحيان، يعتمد الطالب وولي الأمر فى اختيار البرنامج الأكاديمى على الانطباعات البصرية والحملات التسويقية المبهرة والوعود غير الموثقة، وهو ما يبرز أهمية الحاجة إلى “حوكمة الإعلانات الجامعية” لضمان مصداقيتها وحماية حق الطالب فى الوصول إلى معلومات صحيحة وموثوقة قبل اتخاذ القرار.
وعلى الرغم من أن قانون تنظيم الجامعات يمنح المؤسسات الجامعية استقلالية فى إدارة شؤونها، فإن ذلك لا يتعارض مع وضع ضوابط ومعايير إلزامية من قبل المجلس الأعلى للجامعات ووزارة التعليم العالى.
هذه الضوابط يجب أن تلزم الجامعات بأن تتضمن حملاتها التسويقية بيانات موثقة وقابلة للتحقق، مثل نسب التوظيف، الاعتمادات الأكاديمية، والشراكات المؤسسية وغيرها. كما يمكن للمجلس الأعلى للجامعات إعداد مدونة سلوك Code of Ethics تنظم معايير الإعلانات الجامعية وبرامجها التسويقية، بما يضمن التزامها بالمصداقية والشفافية.
ويمكن إنشاء لجنة مستقلة أو آلية تابعة للمجلس لتقييم هذه الحملات للتحقق من مدى التزامها بمدونة السلوك لتحقيق التوازن بين حرية التسويق وحق المجتمع فى الشفافية والمعلومة الموثوقة.