جاءت ملاحظاتي لصاحبنا أنه لم يعد مرحاً يثير البهجة كما كان شأنه دائماً ، ذات يوم في مقهى انتهزت فرصة وجودي معه بمفردنا لأصارحه بملاحظاتي فما كان منه إلا أن بكى بدموع حارة لدرجة أن بعض الزبائن بدأوا في التطلع علينا فرجوته أن يقوم معي للتمشية ووافق، وفي الطريق حكى لي عن فشل خطبة ابنته ثلاث مرات في وقت قصير لكن ما أصابها كان مروعاً فبدأت تطيل الوقوف أمام المرآة غير أنه في نهاية الوقفة تقوم بكسر المرآة ثم البكاء بشدة وليست المشكلة بالطبع المرآة لكن عذابنا معها دون جدوى ونحاول معها حتى الآن الذهاب للعلاج النفسي لكننا لم ننجح بعد!.
لم تعد ابنة صاحبنا قادرة على التواصل مع نفسها بثقة واطمئنان أمام المرآة، ويشير (محمود رجب) أستاذ الفلسفة في كتابة الجميل: فلسفة المرآة إلى أن المرآة هي رمز للخداع وكذلك من حيث هي رمز للمعرفة وتتضمن تحولاً يطرأ على الإنسان الناظر إليها. ولعل أسطورة (نرسيس) أو نرجس الذي اشتق من اسمه لفظ نرجسية أو عشق الذات، ذلك الشاب الوسيم الذي وقع في حب انعكاس صورته في الماء، فانتهى غريقاً لتنبت في مكان غرقه زهرة النرجس ومن الانعكاس الاصطناعي لمرآة زجاجية لابنه صاحبنا إلى الانعكاس الطبيعي بصورته في الماء مع (نرسيس) تبدو المرآة أكثر من كونها أداة يمكن استخدامها للكشف عن صورتنا عندما نقف أمامها، بل تحمل طابعها التأملي – الانعكاسي- في الوعي بذاتنا.
وقد دفن المصريون القدماء المرايا مع موتاهم وكذلك في الحضارة الصينية استخدمت المرآة لتعكس الطاقة السلبية بعيداً عن المنزل لغرض روحاني. وتطرح المرآة سؤالاً مهماً للغاية: هل هي انعكاس لوجودنا أم هي نظرتنا لأنفسنا وما حولنا. وتقدم وجهة النظر النفسية تصورها للمرآة بوصفها عاملاً مؤثراً وقوياً وإيجابياً لمساعدة الناس في محبة أنفسهم وازدياد ثقتهم بها بديلاً عن الدعم والمديح من الآخرين.
وفي الأصل كانت الطبيعة هي المرآة التي لم يصنعها البشر كالماء وسائر الأجسام الملساء وهي مرآة حقيقية لأنها طبيعية لكن متي وجدت المرآة الزجاجية صاحبها ظهور فكرة الوعي بالذات والاستبطان وإدراك الشخصية.
وفي العلم يأتي مثال مرآة العالم (أرشميدس) التي تقوم على مرآة مقعرة ينعكس الضوء عليها فيجتمع في نقطة واحدة ومن هنا يمكن أن تحرق الجسم الكائن عند تلك النقطة، وتطورت الفكرة للاستخدام في الأغراض العسكرية.
وتمثل صورة المرآة انعكاساً صادقاً أو صورة معكوسة أو مقلوبة وهذا العمل المزدوج يؤكد الهوية وأيضاً الاختلاف.
فالإنسان في المرآة هو نفسه، ولكن في الوقت نفسه ليس إلا صورة للأصل وما التأمل الإنساني للذات إلا نظرة في مرآة الذات ويعبر المبدع (سيد حجاب) عن هذا الأمر عندما يقول “إزاي نبص لروحنا جوا مراياتنا إذا احنا عشنا هربانين من الحقيقة”.