تحوّل نشاط بعض من المؤسسات والجمعيات وحتى بعض الأحزاب ومراكز تقديم الخدمات، من أداء رسالتها الأساسية تجاه المجتمع، إلى صفحات السوشيال ميديا فى نشر صور الاحتفالات والمؤتمرات التى لا تُسمن ولا تُغنى من جوع، ولا تقدم فائدة حقيقية للمواطنين الذين ينتظرون من هذه الكيانات خدمات واقعية تمس حياتهم اليومية. ولست ضد إقامة الحفلات والمؤتمرات ولكن ان تصبح هى العمل الاساسى وان يكون «الشو» الاعلامى ولقطات الصور هما الهدف ومعيار النجاح فهذا أمر يحتاج إلي وقفة.
المفارقة أن المستفيد الوحيد من هذه الظاهرة هم مسئولو تلك الأماكن أنفسهم، الذين يستعرضون صورهم وفيديوهاتهم وكأنهم يحققون إنجازات تاريخية، بينما فى الحقيقة لا يتجاوز الأمر كونه «مجدًا مزيفًا» أمام عدسات الهواتف.
لكن السؤال الأهم الذى يفرض نفسه: من أين تأتى كل هذه المصروفات على حفلات ومؤتمرات لا عائد لها سوى إهدار المال العام والوقت والجهد؟
أليست هذه الأموال والجهود أحق بأن تُسخّر لتطوير الخدمات، أو حتى تطوير قدرات المؤسسة ذاتها لتكون قادرة على العطاء الحقيقي؟
إن المواطن البسيط لا يعنيه عدد الاعجبات التى حصلت عليها والمشاهدات ولا التعليقات التى تمجد وتمدح بأقوى ابيات الشعر، بل يهتم بالخدمات الملموسة التى يشعر بها فى حياته اليومية؛ علاج فى مستشفى عام، مقعد دراسى لطفل، فرصة عمل لشاب، أو مبادرة نظيفة تعود بالنفع على الشارع. هذه هى المقاييس الحقيقية للعمل المؤسسي، وليست الصور المعلقة على الجدران الافتراضية لمواقع التواصل.
المؤسف أن بعض هذه الكيانات باتت تتعامل مع «المظهر» على أنه أهم من «الجوهر»، فاختلطت الامور وضاعت الرسالة. وبدلًا من أن تكون تلك المؤسسات أداة بناء فى المجتمع، أصبحت عبئًا عليه، تستهلك أمواله وجهوده دون أن تقدم المقابل.
ولنا أن نتأمل الفارق: مؤسسة صغيرة فى إحدى القرى قدّمت بمبادرة لإصلاح مدرسة حكومية، وأصلحت المقاعد والسبورات، فخرج مئات التلاميذ ليستفيدوا مباشرة. فى المقابل، نجد مؤسسة أخرى أنفقت عشرات الآلاف على مؤتمر صاخب لم يخرج منه سوى بعض الصور على «فيسبوك» وتصريحات جوفاء أيهما سيحفظ له التاريخ مكانة مشرفة؟
إن التاريخ لا يُكتب بالصور المنشورة على «فيسبوك» و»إنستجرام»، بل يُكتب بالأثر الذى يتركه الإنسان فى حياة الناس. والتاريخ لن يرحم من بدّد أموال المجتمع فى حفلات أضواء وكاميرات، بينما ترك رسالته الأساسية تضيع وسط ضجيج لا فائدة منه.
إن بناء الأوطان لا يتم عبر عدسات الهواتف ولا بعدد اللافتات التى تُرفع فى المؤتمرات، وإنما عبر العمل الجاد والنتائج الملموسة. المجتمع بحاجة إلى مؤسسات تعى أن صورتها الحقيقية تُرسم فى قلوب المواطنين لا فى صور «السوشيال ميديا».
ولذلك ما يمكن ان نقوله لهؤلاء: كفى إهدارًا للوقت والمال العام. سخروا جهودكم فى خدمة المواطنين، ووجّهوا أموالكم لمشروعات حقيقية تعود بالنفع على الناس والبلد. اعرضوا خدماتكم بصدق، وطوروا أنفسكم لتكونوا أدوات بناء وتنمية، لا مجرد صور عابرة على «السوشيال ميديا». هكذا فقط يُصنع التاريخ المشرف، لا بالاحتفالات واللقطات المزيفة.