من كان يظن أن طائرًا صغيرًا يغوص فى الماء فى هدوء، أو بطريقًا بدينًا يسبح بانسيابية فى أعماق البحر، أو بومة حكيمة تطير فى صمت الليل، يمكن أن يغيروا وجه صناعة النقل فى اليابان؟! ليست هذه أسطورة من كتب الخيال، بل واقعة حقيقية صنعتها عقول تحسن التأمل وعيون لا تفارق الطبيعة، وقصة بطلها مهندس بسيط كان فى الأصل مراقبًا للطيور، لكنه نجح فى أن يحل أعقد مشكلات القطارات السريعة مستلهمًا الحلول من مناقير وأجنحة خلقها الله.
فى ثمانينيات القرن الماضي، واجهت القطارات اليابانية السريعة «شينكانسن» مشكلة الانفجار الصوتى الذى يدوّى عند خروج القطار من الأنفاق فيرعب السكان ويهدد راحة الركاب. المهندس اليابانى لم يجلس خلف شاشة، ولم يتوه فى معادلات معقدة، بل تأمل فى طائر الرفراف، ذلك السهم الصغير الذى يقتحم سطح الماء بسرعة البرق دون أن يحدث أى ضوضاء. فاستلهم من منقاره مقدمة القطار، فجاءت النتيجة مدهشة: انخفض الصوت، ارتفعت السرعة، وتراجع استهلاك الطاقة.
ثم جاء التحدى الثاني؛ مقاومة الهواء عند سرعات تفوق ثلاثمائة كيلو متر فى الساعة، حيث كان القطار يصارع الرياح كأنه يصارع وحشًا لا يُري. مرة أخرى لم يكن الحل فى الحديد والخرسانة، وإنما فى تأمل البطريق الذى يتحرك فى المياه الباردة بجسمه الانسيابى بلا مقاومة تُذكر. فجاء تصميم القطار الجديد شبيهًا بجسم البطريق، فإذا بالقطار ينساب فى الهواء كما ينساب البطريق فى البحر، تتحول المعركة إلى تناغم والخسارة إلى كفاءة.
أخيرًا، واجه اليابانيون ضجيج الأسلاك الكهربائية التى تحتك بالقطار بسرعته الجنونية. فكر المهندس فى البومة التى تطير فى الليل بجناحين مسننين لا يحدثان ضوضاء، فاستلهم التصميم ليطور عجلات وأسلاكًا تقلل الصوت. وهكذا تحولت صاخبة الحديد إلى موسيقى هادئة، وصار الركاب ينعمون بالسكينة فى رحلاتهم السريعة.
هكذا حلت الطيور الثلاثة مشاكل السكك الحديدية اليابانية، وهكذا أعاد «كوكب اليابان» تأكيد فلسفته الراسخة أن الطبيعة كتاب مفتوح، من يقرأه يُبدع، ومن يهمله يتعثر. إنها فلسفة التأمل التى جعلت اليابانى يحترم العلم والعمل معًا، فيسبق الجميع، بينما نحن نردد آيات القرآن الكريم التى تحض على التدبر فى خلق الله: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»، و»إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب»، لكننا نقول ما لا نفعل. نرفع شعارات التدبر بينما نحن غافلون عن كنوز الطبيعة التى أودعها الله بين أيدينا.
فى مصر، نحن أحوج ما نكون إلى هذا الدرس. نواجه تحديات ضخمة فى النقل والصناعة والطاقة، ولدينا تاريخ من العلم والإبداع، وطبيعة غنية لا تُقدر بثمن. لكننا نحتاج أن نتأمل كما تأمل الياباني، أن ننظر إلى حركة الطيور والأسماك، إلى هندسة النحل والنمل، إلى إلهام الطبيعة الذى قد يحل أصعب أزماتنا. إن القرآن لم ينزل ليُتلى فقط فى المحاريب، بل ليُترجم إلى عمل فى الحقول والمصانع والسكك الحديدية، لكننا جعلنا التدبر ترفًا فكريًا لا يبارح المنابر.
إن «قصة الطيور الثلاثة» ليست مجرد حكاية عن اليابان، بل رسالة لنا جميعًا، تقول إن منقار رفراف قد ينقذ قطارًا، وجسم بطريق قد يقلل استهلاك طاقة، وجناح بومة قد يفتح بابًا للسكينة فى عالم صاخب. لقد جعل اليابانى من الطيور أساتذة فى جامعة الحياة، بينما بقينا نحن فى مقاعد الانتظار. فلنعد إلى مدرسة الطبيعة، فهى جامعة مفتوحة بلا أسوار، من جلس على مقاعدها تخرج مبدعًا، ومن تجاهلها ظل عالقًا فى الماضي.