إن نجاحنا فى الحياة يعتمد فى المقام الأول على حُسن تقديرنا للأمور مع تمييز الطيب من الخبيث، وعلينا إعمال العقل لأن فقدانه يعنى فقدان كل شيء.
هذا هو ملخص أهم نقاد المسرح فى انجلترا، تعليقاً على أحداث مسرحية شكسبير الشهيرة «الملك لير» الذى غلبته العاطفة مع ابنتيه على حساب الثالثة التى أحبته بالعقل والقلب معاً، وكانت صادقة معه.
تذكرت هذه المقولة وأنا أرى حولى فى المسرح القومى امرأة بسيطة مع أولادها وهى تبكى متأثرة بالمشاهد الإنسانية التى تقوم عليها المسرحية التى مضى على كتابتها 1021 سنة.
وهى تظهر فى عواصم العالم بأشكال سينمائية ومسرحية مختلفة، لأن البٌعد الإنسانى فيها لا يجعلها حاضرة فقط أمام أبناء العصر، لكنها متوغلة فى الماضى أيضا منذ قصة قابيل وهابيل وتلك الأحداث نداولها بين الناس، وهم يحبون ويكرهون ويتصارعون ويتنافسون ويتباعدون ويتقاربون وكلهم خلق الله، وعندما يتوغل الفن فى نفوس البشر فإنه يعيش ويصل إلى الجميع فى أرجاء الأرض على اختلافهم.
هذا هو شكسبير يصل إلى ميدان العتبة بكل ما فيه من ازدحام وضجيج، ولم تكن هذه المرة الأولي، فقد جاء مراراً وتكراراً منذ بناء المسرح القومى العريق فى عام 1869 فى عصر الخديو إسماعيل، وكان معروفاً باسم «مسرح الأزبكية» بالتزامن مع افتتاح قناة السويس والاحتفالات الكبرى التى جرت فى هذه الأيام.
كم من متفرج ونحن فى عام 2025 أدهشه أن يكون هذا المسرح التحفة فى هذا المكان يعبرون عليه ولا يشعرون، حتى تحول مع الظهور الثالث لهذا الفنان الاستثنائى يحيى الفخرانى مع شكسبير وهو يرتدى ثياب الملك لير، وإن كانت هناك مرة رابعة، لكن من خلال شاشة التليفزيون عندما صاغ الكاتب المبدع عبدالرحيم نفس المسرحية وحولها إلى مسلسل بعنوان «دهشة» لعب بطولته نبيل الحلفاوى وياسر جلال وسماح السعيد وفتحى عبدالوهاب مع يسرا اللوزى وحنان مطاوع وفتوح أحمد، وأخرجه شادى الفخراني، ليصبح بذلك «يحيي» الوكيل الحصرى لشكسبير فى المنطقة.
الطبخة الثالثة
الصحيح أن «لير 2025» مع الفخرانى النسخة الثالثة من نفس الرواية الأولى من إخراج أحمد عبدالحليم، وبطولة سوسن بدر.. والثانية للقطاع الخاص وأخرجها تامر كرم علي، وهى من المرات ربما النادرة التى يقدم فيها القطاع الخاص على تقديم عرض كلاسيكى تراجيدى بالفصحي، ثم كانت الطبخة الثالثة وأنا أقصدها تماماً لأسباب عديدة، أولها أن المخرج الشاب صاحب الرؤية المسرحية الشاملة أرادها مختلفة وحشد لها طاقته حتى تخرج بهذا الإبهار الذى حوّل المسرحية إلى حدث فني، حتى فى الوقت الذى كان فيه المنتخب القومى لكرة القدم يلعب مباراته المهمة فى تصفيات كأس العالم مع اثيوبيا، كانت صالة العرض مكتملة العدد ولم تنقص ليلة واحدة منذ انطلاقها.
عندما جاء يحيى يتوكأ على عصاه فى المؤتمر الصحفى الذى سبق العرض بأيام، سأل الغالبية أنفسهم كيف سيتحرك على المسرح؟!، فإذا انفرج الستار وجدوا أمامهم هذا النجم ابن الثمانين بوزنه الثقيل يتحول إلى عصفور رشيق عصاه الجمهور الذى يأتى إليه من كل مكان فى مصر وخارجها، وتعامل «سرور» معه بذكاء شديد، وشغل الفضاء المسرحى وحركة الممثل.
شغلانة لها ناسها
جاء اختيار الفنان القدير الجاد طارق دسوقى لكى يعطى للعمل نفساً جديداً، ولا غرابة فى ذلك، فهو أحد أبناء المسرح الحديث ويجيد اللغة العربية، وكان الاختيار فى محله وباقى طاقم العمل من الشباب باستثناء المخضرم عادل خلف وحسن يوسف.
طارق جاء له هذا الدور لكى يداوى جراح غيابه الطويل عن الدراما التليفزيونية واعتذاره عن أدوار فيها الكثير من المال، لكن فيها «قلة قيمة» وهو ما رفضه رغم أن الفن مصدر رزقه، والصبر جميل.. وما أجمله أن يأتى مع ممثل مختلف وجمهور مختلف ومسرح مختلف، يكفى أن أولاد مدارس اللغات بأعمارهم الصغيرة يحضرون إلى المسرح العريق ويخرجون فى حالة من السعادة، رغم أن العروض تخلو من المشهيات المتعارف عليها، وتوصف بأنها مسرحية للأسف، من ضحك فارغ وكلام بلا معنى وهيصة وزمبليطة، مثل أكل الشارع الطياري.
سر يحيي
لماذا نقول إن الفخرانى فى عالم تاني؟!.. لأنه خلال مسيرته ومن بدايته رسم لنفسه طريقاً قد يخطئ فيه ويصيب، ولكنه لم يتراجع عنه، ولم نعرف له شلة فى الصحف تعرف متى تطبل وتزمر وترقص على الفاضية والمليانة، فالرجل ابن ميت غمر وخريج كلية الطب لم يراهن على شهرة يتساوى الطيب والخبيث، لكنه قصد النجاح الحقيقي، وبعد أن وجد السينما لها قانونها وبعد أفلام جيدة «خرج ولم يعد، عودة مواطن، محاكمة على بابا، بلبل ومبروك، الكيف، إعدام ميت، للحب قصة أخيرة، حب فى الزنزانة، الذل، أرض الأحلام» رأى أن الدراما التليفزيونية تحقق له ما يريد، ولا تفرض عليه التنازل لأسباب تجارية، فقدم روائعه التى جعلته أميراً للدراما التليفزيونية، فهل ننسى له «أوبرا عايدة، الخواجة عبدالقادر، ليالى الحلمية، زيزينيا، ونوس، أبنائى الأعزاء شكراً، لا، نصف ربيع الآخر، الليل وآخره، شيخ العرب همام».
وإلى جانب هذا، له حضوره فى المسرح وأبرزها «راقصة قطاع عام» وميزته طوال الوقت أنه لا يظهر إلا عندما يجد العمل المناسب، وإلا اختار الغياب، فإذا به دائم الحضور فى قلب وعقل جمهوره الذى يبادله حباً واحتراماً بمثله، والناس دائماً فى شوق إليه لأنه لا يستهلك نفسه فى برامج لا معنى لها ومقابلات هايفة وإعلانات تأخذ من تاريخه الفنى وإن منحته المال.
هذا النجاح الذى يتحقق فى كل عرض على خشبة المسرح القومي، خلفه إدارة واعية للمسرح العريق، حيث يتولى رئاسته الفنان الدكتور أيمن الشيوى الذى هيأ المكان لهذا الحدث الكبير، وهو شريك أساسى فى النجاح بلا جدال، وهذا ما ينسحب أيضا على الفنان هشام عطوة رئيس البيت الفنى للمسرح، وبهؤلاء الأكابر ينسجم أوركسترا الإجادة الذى يحارب بهذا الفن الجاد، موجات الهلس والتفاهة باسم الفن وما أكثرها هنا وهناك وقانا الله وإياكم منها، فى وقت نحن فى أمسّ الحاجة إلى فن يوقظ الوعى ويحرك المشاعر إلى الأفضل والأجمل والأرقي، بعيداً عن العشوائيات وفلاسفة التوك توك والمهرجانات.
وثيقة
المسرحية بطولة أمل عبدالله وإيمان رجائى ولقاء على وبسمة دويدار وطارق شرف ومحمد العزايزى وتامر الكاشف وحسن يوسف وعادل خلف ومحمد حسن وريم عبدالحليم، ديكور حمدى عطية، استعراضات ضياء شفيق، موسيقى أحمد الناصر، ملابس علا علي.