منذ تأسيسها عام 1948، لم تتوقف إسرائيل عن ممارسة سياسات عدوانية ضد جيرانها العرب. لكن اللافت فى السنوات الأخيرة أن هذا السلوك بات أكثر جرأة واتساعاً، ليشمل دولاً لم تكن فى صلب المواجهة العسكرية المباشرة. من فلسطين إلى لبنان وسوريا، ومن اليمن إلى قطر، تتبدّى إسرائيل كقوة تتحرك خارج كل الضوابط، متسلحة بتحالفات دولية، ومتجاهلة سيادة الدول وقرارات الشرعية الدولية.
القصف الإسرائيلى على الدوحة، الذى استهدف قيادات من حركة حماس، شكّل سابقة خطيرة فى تاريخ الصراع، فهذه ليست غزة أو جنوب لبنان أو حتى دمشق، بل دولة خليجية مستقرة وحليفة للولايات المتحدة. العملية لم تكن مجرد استهداف لخصوم عسكريين، بل كانت رسالة سياسية تقول إن إسرائيل باتت تعتبر أى مكان يصل إليه خصومها ساحة مفتوحة للضرب. هذه السابقة أثارت إدانات عربية ودولية، لكنها فى الوقت نفسه فتحت الباب للتساؤل: هل ستظل إسرائيل تتحرك بلا خطوط حمراء؟
وفى سوريا، التى أنهكتها الحرب الأهلية منذ 2011، تحولت أراضيها إلى ساحة مفتوحة للغارات الإسرائيلية. الذريعة المعلنة دائماً هى استهداف شحنات أسلحة لحزب الله أو مواقع نفوذ إيرانية، لكن النتيجة واحدة: انتهاك دائم للسيادة السورية وتدمير للبنية التحتية، واستنزاف دولة بالكاد تقف على قدميها. أما لبنان، فالمعادلة تبدو أكثر هشاشة، إذ تتكرر الضربات على مواقع حزب الله، وتتواصل الاختراقات الجوية حتى باتت خبراً يومياً. فى المقابل يرد الحزب بصواريخ أو عمليات محدودة، فى لعبة توازن هشة يمكن أن تنفجر فى أية لحظة، خصوصاً أن حزب الله يرى نفسه جزءاً من محور إقليمى فى مواجهة إسرائيل، بينما تستخدم تل أبيب الملف اللبنانى كورقة ضغط داخلية وخارجية.
أما فلسطين فهى القضية المركزية والجرح المفتوح. غزة تتعرض بشكل دورى لقصف مدمّر يطال البنية التحتية ويوقع آلاف الضحايا من المدنيين، فى ظل حصار يخنق الحياة اليومية منذ سنوات طويلة. إسرائيل تصف ما يحدث بأنه دفاع عن النفس، لكن المنظمات الحقوقية الدولية تتحدث عن عقاب جماعى وانتهاك صارخ للقانون الإنساني. وفى الضفة الغربية يستمر الاستيطان بوتيرة متصاعدة، يلتهم الأرض يوماً بعد يوم ويغلق باب حل الدولتين نهائياً، محولاً القضية إلى نزاع مفتوح بلا أفق.
الجديد فى المشهد هو انخراط اليمن كجبهة غير تقليدية للصراع. إسرائيل شنت ضربات على مواقع الحوثيين رداً على هجمات صاروخية ومسيرات استهدفت البحر الأحمر وحاول بعضها الوصول إلى العمق الإسرائيلي. بهذه الضربات أرادت تل أبيب أن تقول إنها لن تسمح لأى طرف بتهديد ممراتها البحرية، وأنها مستعدة لفتح جبهة جديدة مع وكلاء إيران حتى لو كانت على بُعد آلاف الكيلومترات من حدودها.
هذا السلوك العدوانى لا يأتى من فراغ، بل من جملة دوافع متشابكة. العقيدة العسكرية الإسرائيلية تقوم على مبدأ «الضربة الاستباقية»، أى أن أى تهديد محتمل يجب إزالته قبل أن يتعاظم. التحالف مع واشنطن يوفر لإسرائيل هامش تحرك واسعاً وثقة بأنها ستتفادى أى عقوبات جديّة. الأزمات الداخلية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، كثيراً ما تدفع الحكومات الإسرائيلية إلى التصعيد الخارجى لتوحيد الداخل أو صرف الأنظار. وأخيراً فإن غياب موقف عربى موحد وتآكل أدوات الردع شجع تل أبيب على التمادى بلا خشية حقيقية من ردع إقليمى منظم.
المستقبل مفتوح على أكثر من سيناريو. استمرار الغارات على سوريا ولبنان واليمن قد يشعل مواجهة شاملة إذا سقط قيادى بارز أو استُهدفت بنية حيوية لدولة عربية. الهجوم على دولة مثل قطر، وهى حليف غربي، قد يدفع المجتمع الدولى إلى مراجعة الموقف وفرض قيود أكبر على تل أبيب، أو على الأقل فتح نقاش جدى فى الأمم المتحدة. دول عربية راهنت على التطبيع قد تعيد النظر فى حساباتها إذا تكررت الانتهاكات بما يتجاوز الخطوط الحمراء. وفى المقابل، قد تجد الفصائل المسلحة مثل حزب الله وحماس والحوثيين فى التمدد الإسرائيلى مبرراً لتوسيع عملياتهم، مما يفتح الباب أمام حلقة انتقام متبادل تزيد من حدة التوتر.
الآثار الإنسانية ستكون كارثية إذا استمر هذا النهج. كل ضربة جديدة تعنى المزيد من اللاجئين والدمار والأزمات المعيشية، وهو ما يهدد استقرار المنطقة بأسرها ويدفع نحو سيناريوهات انفجار يصعب احتواؤها.
فى المحصلة، تتحرك إسرائيل اليوم بمنطق القوة المطلقة، غير عابئة بالقانون الدولى أو الأعراف الدبلوماسية. لكنها بهذا المنطق تفتح على نفسها أبواباً قد تعجز عن إغلاقها. فاستمرار العدوان على قطر وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن لن يجلب لها أمناً دائماً، بل سيزيد من الاحتقان ويعزز محور المقاومة. وفى لحظة ما، قد يجد الشرق الأوسط نفسه أمام انفجار إقليمى كبير، حيث تختلط الحسابات وتذوب الخطوط الحمراء، ويصبح الكل فى دائرة النار.