هاربة من الموت، كانوا خمسة من الكبار وطفلة، ركبوا سيارة للهروب من المكان ولكن فرق العدوان تتبعتهم، وبدأ الموت يقصفهم، حاولوا الاتصال بالهلال الأحمر الفلسطينى، وحين رد عليهم كانت الطفلة هى الوحيدة التى ما زالت باقية على قيد الحياة تطلب انقاذها، وقد مات أفراد العائلة حولها، وحاول المسعفون استمرار الحوار معها لمعرفة مكان السيارة وهو ما حدث بالفعل، ولكن سيارة الإسعاف لم تنج هى الأخرى من تتبع جنود الاحتلال الذين قتلوا السائق والمسعف والابنة فى مأساة هزت ضمير العالم فى 29 يناير 2024، وهو ما قدمه الفيلم السينمائى «صوت هند رجب» وليدرك ملايين البشر البعيدين جدًا عن غزة، وحشية الاحتلال فى مواجهة ابناء شعب لا يريد ترك بلده برغم كل أنواع العدوان، ولتصبح هذه القصة، وبطلتها الطفلة هند رجب نموذجًا جديدًا من نماذج المقاومة حتى بالاستغاثة التى هزت العالم بحثًا عن الحياة فى بلدها، ولتضاف قصتها إلى قصص أخرى عرفناها من خلال عنف الاحتلال تجاه ابناء فلسطين مثل قصة الطفل محمد الدرة الذى قتل بين يدى أبيه فى مكان خال ونقل أعلام العالم هذه الواقعة قبل أعوام طويلة على السابع من اكتوبر وقصص أخرى لا تحصى.
أرجوكى.. تعالى خذينى
طوال سنوات العقد الأخير، توالت عمليات قتل الأطفال بأيدى قوات الاحتلال، وقتل آبائهم وأمهاتهم أمامهم وترويعهم، خاصة منذ بداية الحرب على غزة التى تكمل عامين قريبًا، ومع اهتمام ومعرفة البشر فى العالم بما يحدث يوميًا ضد الأطفال، «وهو أمر جديد فى تاريخ الحروب»، مما خلق اهتمامًا أكبر لدى ملايين البشر خارج غزة، دفع إلى التظاهر فى كل مكان، وليصل عدد المتظاهرين فى استراليا إلى نصف مليون أول أمس رفضًا لما يحدث فى فلسطين من عدوان، ومثلهم فى المكسيك، وفى دول أوروبية عديدة، ومن هنا استطاعت قصة هند رجب ان تتخطى الاهتمام العام للعالم لتتحول إلى أيقونة أكثر تأثيرًا من خلال فيلم قدمته المخرجة «كوثر بن هنية» عنها وعن تفاصيل القصة، ولأنها مخرجة قوية ولها سجل مهم فى تقديم افلام عن معاناة البشر تجاه سياسات تهددهم استطاعت بن هنية المخرجة التونسية التى حققت نجاحات كبيرة سابقة من خلال أفلام عديدة كان آخرها فيلم «بنات ألفة» عام 2023 الذى قدم قصة إغواء الدواعش للفتيات للانضمام اليهم، استطاعت فى فيلمها عن قصة هند رجب واهلها ان تقدم فيلما مهماً بشهادة كل من رآه فى مهرجان ڤينيسيا السينمائى الدولى فى دورته الأخيرة التى انتهت يوم السبت الماضى السادس من سبتمبر بحصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الكبري، اما الاهم فهو حصوله على كل الإعجاب والتقدير من أكبر عدد من جمهور المهرجان ومن نجوم السينما الكبار ممن حضروا المهرجان وليقف الجميع لتحية الفيلم والتصفيق له لمدة 24 دقيقة كاملة فى مظاهرة تأييد ودعم كبير له ولما قدمه عن تفاصيل الاعتداء على طفلة وأسرتها.
والحقيقة ان اختيار المخرجة كوثر بن هنية، وهى الكاتبة أيضًا، للتفاصيل، كان ضمن أسباب أهميته فحين تقدم تسجيلا للمكالمات بين الطفلة وفريق الهلال الأحمر تتوسل فيها هند الصغيرة لهم بانقاذها من سيارة أصبح كل أقاربها فيها شهداء وتبلغ موظفة الهلال الأحمر تليفونيا بأن الدبابة الإسرائيلية تتحرك بجانب السيارة «ارجوكي، تعالى خدينى» ولكن طواقم الإسعاف عجزت عن الوصول إليها بسبب كثافة النيران واستهداف جيش الاحتلال لاى حركة من إنسان أو سيارة ، فأى تأثير لهذا المشهد على صناع الفيلم، ومشاهديه، وعلينا جميعًا؟ وأى تأثير لمشاهد الخوف والرعب لطفلة وحدها وحولها كل الكبار موتى ودبابة مجاورة ؟
لقد ظلت الطفلة هند رجب تتواصل مع أطقم الهلال الأحمر لمدة ساعات تعبيرا عن خوفها وهى وحدها فى السيارة بين جثث من كانوا عائلتها وقتلوا برصاصات جيش الاحتلال، وبعد أيام غير قليلة على المكالمة، عثرت فرق الإسعاف على جثمان هند وكانت قد فارقت الحياة بعد مكالماتها واستغاثتها، وذهبت إلى ربها مع أفراد العائلة والمسعفين اللذين ذهبا لانقاذها، فهل كان على العالم ان ينسى هذه الواقعة ضمن وقائع كثيرة تجعل هذه الحرب هى الأكثر عنفًا ووحشية فى تاريخ هذا العالم؟ لقد قدم «صوت هند رجب » كفيلم لنا جميعا وثيقة مهمة لن يستطيع احد محوها بعد نهاية هذه الحرب الظالمة، وإعادة إعمار غزة، وثيقة تؤكد ان الفن وحده هو ما يحتفظ بالحدث حتى لا يضيع بالإنكار أو التهرب، وليضاف إلى قائمة سابقة من الأفلام عن قضايا العالم، وعن القضية الفلسطينية تحديدًا التى يحاول المحتل إنكارها، بل ويذكر الدول التى أعلنت اعتزامها الاعتراف بالدولة الفلسطينية فى الأيام القادمة بأنها ستضع نفسها فى مأزق، متناسيا ان الحقائق لا تموت، برغم قوة المحتل، وان ما لدى العالم من أعمال السينما وكل الفنون هو رصيد مهم للمقاومة.