أؤمن يقينا أن التنوع ثراء، وأن تباينات العقول حكمة إلهية تقودنا إلى تمدد معرفى حقيقى، يحتاج إلى نقاش عام وحراك ثقافى دائم ، هذا الحراك أدواته الأساسية هى الحوار وإتاحة الفرصة للرأى الآخر أن يصل إلى معادلة اتخاذ القرار، لكن هذا النقاش العام لن يكتمل دون وجود آراء حقيقية.
نحن نسمع كثيراً عبارة «الرأى والرأى الآخر»، لكن حين تبحث عن هذا «الرأى الآخر» فلن تجد إلا سراباً، الحقيقة أن كثيرين جعلوا من الحديث عن «الرأى الآخر» غاية فى حد ذاته، جعلوه شعاراً يردَّد لا مضموناً يُمارَس. فالخطاب ملىء بالادّعاء عن مساحة للتعددية والاختلاف، لكن عند التدقيق تكتشف أن ما يُقدَّم ليس رأياً، ولا حتى شبه رأي، إنما مجرد صدى مزيّف يملأ الفراغ ويُسوَّق على أنه دليل ديمقراطية وحرية.
لكن واقع الأمر أن الإفلاس الفكرى هو الذى يقود إلى عاصفة من «الرغى»، عاصفة تهبّ على أى مجتمع فتؤدى إلى تسطيح العقل الجمعي، وتعميق سلوكيات الفهلوة، وشيوع ظاهرة «اللقطة». وعندما يسود الرغى وينتشر، يظهر تباعاً «الرغى الآخر»، الذى لا يضيف شيئاً سوى مزيد من الإثارة الكاذبة والوعى الزائف. ومن هنا يبدأ الانفصال عن الواقع، وتهاجر الحقيقة إلى غرف العقل الخلفية، تبحث عن فرصة للخروج من شرنقة التفاهة.
والمجتمع الذى يعانى من خفة وزن مثقفيه، وتفاهة منظّريه، وانسحاب عقلائه، سيعانى حتماً من نوبات وتشنجات مع كل أزمة تلوح فى الأفق. فمن يتحكم فى مزاج المجتمع صار مجهول الهوية، معلوم الهوي، يقود الحشود بأصوات عالية وضجيج متواصل، دون بوصلة فكرية أو قيمة معرفية.
ولعل أخطر ما فى هذه الظاهرة أن بعضهم يبحث عن «الرأى الآخر» حتى فى قضايا الأمن القومي، وكأن الخيانة يمكن أن تُعرض على الشاشة باعتبارها وجهة نظر!
نراهم يساوون بين جيش يحمى وطنه وبين ميليشيات وعصابات إرهابية تعبث بأمن وسلامة الأوطان، يعيشون فى جلباب جماعات مارقة ويتغنون بالتعددية غير الموجودة وينادون بالديمقراطية التى يكفرون يها ثم يتشدقون بالبحث عن «الرأى الآخر». هنا لا يكون الأمر حرية رأى ولا تعددية، بل عبث صريح بمستقبل الأوطان وخيانة مقنّعة بثوب النقاش.
ومع غزارة إنتاج الشائعات وتنوّعها، وفى ظل حالة الارتباك الثقافى والفكرى وندرة المعلومات الموثقة، نجد الحقيقة منزوية فى ركن قصىّ، لا يدافع عنها إلا قلة من الشرفاء. وحتى هؤلاء، تجد بعضهم يفعل ذلك على استحياء، خشية الوقوع فى شرك أهل الشر، الذين أتقنوا صناعة الكذب والتزييف. فأهل الباطل وحواريوّه تراهم ركعًا سجّداً فى محاريب الشيطان، وسيماهم على وجوههم من أثر النفاق والسخرية والافتراء، بينما أهل الحق والفضيلة تراهم أخفض صوتاً وأقل حركة، يتخفّون خلف جدران الصمت، ويهمسون بالحق همساً حتى وهم فى محراب الحقيقة وبين يدى الحق.
إن المجتمع المصري، فى ظل هذه المعادلة المختلة، يحتاج إلى ما يشبه عملية قلب مفتوح، تُغيَّر فيها الصمامات المتهالكة التى ينزف منها وعى الأمة كل يوم. نحتاج إلى تغيير كامل للـ «سوفت وير» الذى يحكم العقل المصري، ذلك البرنامج العقيم الذى ينتج ويُفرز هذه السلوكيات المأزومة، التى نقف أمامها كثيراً بالنقد، لكننا نادراً ما نحرك ساكناً لتغييرها.
فالرأى بلا أساس يتحول إلى شعار أجوف، والرأى الآخر بلا مضمون يصبح مجرد رغى يتغذى على الرغى الأول. والنتيجة مجتمع يلهث وراء سراب الاختلاف الزائف، بينما الحقيقة غائبة، والمستقبل معلَّق بين أيدٍ لا تعرف من الفكر إلا قشوره، ومن العقل إلا صخبه وضوضاءه.